الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثاني - أن يذكر الشارع مع الحكمة وصفا لو لم يكن علة لعري عن الفائدة ، إما مع سؤال في محله ، أو سؤال في نظيره .

                                                      فالأول : كقول الأعرابي : واقعت أهلي في رمضان ، فقال : { أعتق رقبة } فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق ، والسؤال مقدر في الجواب ، كأنه قال : إذا واقعت فكفر . وقد مر أن مثل هذا للتعليل فكذا هنا ، لأن المقدر كالمحقق ، فإن حذفت من ذلك بعض الأوصاف وعللت بالباقي سمي ( تنقيح مناط ) ، مثاله : أن يقول : كونه أعرابيا لا مدخل له في العلة ، إذ الأعرابي وغيره حكمهما سواء . وكذا كون المحل أهلا ، فإن الزنى أجدر به .

                                                      ( والثاني ) كقوله ، وقد سألته الخثعمية : إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت عنه ؟ قال : { أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ؟ } قالت : نعم ، فذكر نظيره وهو دين الآدمي ، فنبه على كونه علة في النفع وإلا لزم العبث . وجعل إمام الحرمين وغيره منه قوله عليه السلام للسائل عن القبلة : { أرأيت لو تمضمضت بماء } فقال : نبهه عليه الصلاة والسلام على قياس [ ص: 254 ] القبلة على المضمضة في صحة الصوم معها . وقال المحققون غير ذلك ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام إنما نبه على نقيض قياس يختلج في صدر السائل ، وذلك أن الإشكال الذي عند القائل إنما نشأ من اعتقاده أن القبلة مقدمة الجماع ، والجماع مفسد ومقدمة الشيء ينبغي أن تنزل منزلة الشيء ، لما بين المقدمة والغاية من التناسب ، فنبه عليه الصلاة والسلام أن تعليل تنزيل القبلة منزلة الجماع في الإفساد بكونها مقدمة منقوض بالمضمضة في الوضوء وإن كان صائما ، فإن المقدمة وجدت من المضمضة ولم يوجد الإفساد ، وإلا فكيف تقاس القبلة على المضمضة في عدم الإفساد بجامع كونهما مقدمتين للمفسد ، ولا مناسبة بين كون الشيء مقدمة لفساد الصوم وبين كون الصوم صحيحا معه ، بل هذا قريب من فساد الوضع .

                                                      أما إذا علم الشارع فعلا مجردا تكلم عقيبه بحكم فهل يكون علمه كإعلامه حتى يكون الفعل المجرد المعلوم سببا ؟ فيه خلاف حكاه الإبياري . وقال : الصحيح أنه لا يصح استناد التعليل إليه ، لاحتمال أنه حكم مبتدأ وجرى ذكر الواقعة اتفاقا ، ويحتمل الربط لقربه من القرينة . وقال صاحب جنة الناظر " : من أنواع الإيماء الحكم عند رفع الحادثة إليه ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " كفر " لمن قال : واقعت .

                                                      وذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شرط فهم التعليل من هذا النوع أن يدل الدليل على أن الحكم وقع جوابا لما رفع إليه ، إذ من الممكن أن يكون الحكم استئنافا لا جوابا ، وهذا كمن تصدى للتدريس فأخبره تلميذ بموت السلطان مثلا ، فأمره عقب الإخبار بقراءة درسه ، فإنه لا يدل على تعليل القراءة بذلك الخبر ، بل الأمر بالاشتغال بما هو بصدده وبترك ما لا يعنيه . وإذا ثبت افتقار فهم التعليل إلى الدليل فليس إلا انتفاء القرائن الصارفة ، إذ السؤال يستدعي الجواب ، فتأخيره عنه يكون تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، وذلك على خلاف الدليل . [ ص: 255 ] واعلم أن اعتراف هؤلاء بكون السؤال يستدعي الجواب اعتراف بكون السؤال قرينة على كون الواقع جوابا ، فيكون مناقضا لقولهم : إن فهم التعليل يفتقر إلى الدليل ، والقرائن الصارفة ترشد المعارض لدلالة الدليل على تعيين الواقع جوابا ، فلا يؤخذ انتفاؤها في حد الدليل . نعم يقف العمل بالدليل على انتفائها ، وذلك لا يخص هذا النوع من الإيماء ، بل هو جار في جميع الأنواع ، لأن انتقاء المعارض مشترط في العمل بجميع الدلائل .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية