( أقسام القياس الجلي    ) 
ثم قسما الجلي - تبعا  للقفال الشاشي  وغيره - إلى ثلاثة أقسام : 
أحدها : ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال قالا : ولا يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله ، كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف    } فإنه يدل على تحريم التأفيف بالبديهة ، وعلى تحريم الضرب والشتم قياسا ، ولا يجوز أن يحرم التأفيف ويبيح الضرب . وكقوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره    } فلا يجوز أن يجازي على قليل الطاعة ولا يجازي على كبيرها ، ويعاقب على قليل المعصية ولا يعاقب على كبيرها . قال  القفال الشاشي    : حكم ذرة ونصف بمنزلة ذرة . وإنما قال هذا حتى لا يقول مبهوت : إن الكثير ذرات فالاسم متناول لها . يشير إلى ما حكاه إمام الحرمين   [ ص: 50 ] في مناظرة جرت لابن سريج  مع  محمد بن داود  إذ قال له ابن سريج    : أنت تلزم الظاهر وقد قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره    } فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين ؟ فقال مجيبا : الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج    : لو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر انقطاعه . وقال بعض مشايخنا : لا يسمى هذا قياسا . 
قلت : لأن العرب وضعت هذه اللفظة للتنبيه على ما زاد عليه فيكون النهي عن الضرب والشتم باللفظ ، وسماه بعضهم " مفهوم الخطاب " وقيل " فحوى الخطاب " . 
قالوا : والقياس ما خفي حكم المنطوق عنه حتى عرف بالاستدلال من المنصوص عليه ، وما خرج عن الخفاء ولم يحتج إلى الاستدلال فليس بقياس . وقال نفاة القياس : ليس بقياس بل نص . وقيل : تنبيه وضعف ، لأن النص ما عرف " حكم مراتبه " والقياس ما عرف حكمه من اسم غيره ، وهو موجود لأن اسم التأفيف لا ينطلق على الضرب كما لا ينطلق اسم الضرب على التأفيف ، فتحريم الضرب مأخوذ من معنى التأفيف لا من اسمه ، فإن امتنعوا من تسميته قياسا فقد خالفوا في الاسم ، فاختلاف الأسماء في الوضوح والغموض لا يمنع أن يكون كلها نصوصا ، فكذلك اختلاف المعاني في الخفاء ، والجلاء لا يمنع كونه قياسا . واعلم أن هذا الوجه من القياس أقرب وجوهه إلى النصوص لدخول فرعها في النص . 
الثاني : ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال ، كالنهي عن التضحية بالعوراء والعمياء والعرجاء ، فالعمياء أولى قياسا على العوراء ، والقطعاء على العرجاء ، لأن نقصها أكثر ، فهذا لا يجوز أن يرد التعبد بخلاف أصله ، وإن جاز التعبد بإباحة العمياء والقطعاء مع تحريم العرجاء والعوراء .  [ ص: 51 ] وهذا مما اختلف فيه نفاة القياس ، فاقتصر بعضهم على تحريم النص وأباح ما عداه ، فأباح التضحية بالعمياء والقطعاء ، وأثبت بعضهم تحريم الجمع بالتنبيه دون النص . 
والثالث : ما عرف معناه من ظاهر النص باستدلال ظاهر ، كقياس الأمة على العبد في السراية ، وقياس العبد عليها في تنصيف حد القذف ، وقياس النكاح على البيع في تحريمه عند صلاة الجمعة ، فهذا لا يجوز النسخ به . وفي جواز التخصيص به وجهان أصحهما الجواز ، وهذه الضروب الثلاثة يجوز أن ينعقد بها الإجماع وينقض بها حكم من خالفها من الحكام انتهى . وقال  القفال الشاشي  بعد ذكره نحو ما سبق : قد علق  الشافعي  القول في تسمية هذه الوجوه قياسا ، وحكى في " الرسالة الجديدة " أن من أهل العلم من يمنع أن يسمى هذا قياسا لأن القياس ما احتمل فيه شبه بين معنيين ، فنقيسه على أحدهما دون الآخر ، ويقول غيره من أهل العلم : ما عدا النص من الكتاب والسنة وكان معناه فهو قياس وليس في شيء مما حكاه فيها أن ما فهم من المعنى فهو نص ولا أنه مفهوم معنى الاسم انتهى . 
فإن قيل : فما فائدة الخلاف في هذا القسم مع الاتفاق على الحكم ؟ قلنا : سبق في بحث المفهوم له فوائد : منها أنا لو قدرنا في فرع من الفروع وجود نص يشعر بنقيض الحكم فهل يتعارضان أو يرجح أحدهما على الآخر ؟ فمن قال : إنه مأخوذ من اللفظ قال : فيتعارضان . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					