nindex.php?page=treesubj&link=21926_21927الأول النقض
وقدمناه وإن كان من آخر الأسئلة لكثرة جريانه في المناظرات ، وبالجواب عنه يبين الجمع بين الأحكام المتضادة ويندفع تعارضها وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة . فإن كان في المناظرة اشترط في صحته
[ ص: 330 ] اعتراف المستدل بذلك . وتسميته نقضا صحيح عند من رآه قادحا . وأما من لم يره قدحا فلا يسميه نقضا بل يقول بتخصيص العلة . وقد بالغ
أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا ، كقولنا فيمن لم يبيت النية : صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح ، فيقال : فينتقض بصوم التطوع . واعلم أولا أن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم عنها إما لمانع أو فوات شرط أو دونهما . فصارت الصور تسعا ، من ضرب ثلاثة في ثلاثة وقد اختلفوا فيه على بضعة عشر مذهبا : طرفان ، والباقي أوساط .
أحدها : أنه يقدح في الوصف المدعى عليته مطلقا ، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة ، وسواء كان الحكم لمانع أو لا لمانع وهو مذهب
المتكلمين منهم
الأستاذ أبو إسحاق كما حكاه
إمام الحرمين . وهو اختيار
أبي الحسين البصري والإمام الرازي ، وعليه أكثر أصحابنا ، ونسبوه إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ورجحوا أنه مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على غيره ، لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها ، وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة ، واختاره القاضيان
أبو بكر وعبد الوهاب من المالكية .
والثاني : لا يقدح مطلقا في كونها علة فيما وراء محل النقض ، ويتعين تقدير مانع أو تخلف شرط . وعليه أكثر أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد .
[ ص: 331 ]
وقال
الباجي : حكاه
القاضي والشافعية عن أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ولم أر أحدا من أصحابنا أقر به ولا نصره . ووجهه أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاتها ، فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة ، وفرق الأولون بينه وبين العام بأن العلة مستلزمة للمعلول ، إذ هو معناها ، فإذا انتفى الاستلزام فقد انتفى لازم العلة فتنتفي العلية . وهذا مفارق العام ، لأن العام إما أن ينظر فيه إلى الدلالة الوضعية وتلك لا تنتفي بالتخصيص ، وإما أن ينظر فيه إلى الإرادة للباقي .
والثالث : لا يقدح في المنصوصة ، ويقدح في المستنبطة . واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=14979القرطبي ، وحكاه
إمام الحرمين عن المعظم فقال : ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة . ثم قال : مسألة :
nindex.php?page=treesubj&link=21927_21926علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها ؟ ذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع ، لأنه لا يعرض له في التخصيص بخلاف المستنبطة ، فإن مستنده ظني . وإذا تباعد ما استنبطه عن الجريان ضعفت مسالك ظنه ، وليس له أن يحكم بتخصيص العلة . وقال في " المحصول " : زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته . والمراد بالمنصوصة عند هؤلاء أن تكون منصوصة بالصريح أو بالإيماء أو بالإجماع ، كما نقله صاحب " التنقيح " وحكى بعض المناظرين قولا أنه لا يقدح في المنصوصة بنص قطعي ويقدح فيما عدا ذلك .
والرابع : يبطل المنصوصة دون المستنبطة ، عكس ما قبله . حكاه
ابن رحال في " شرح المقترح " . وينبغي حمله على المنصوصة بغير قطعي .
والخامس : لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو شرط ، ويقدح في المنصوصة حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب . وقد أنكروه عليه وقالوا : لعله فهم من كلام
الآمدي ، وعند التأمل يندفع من كلامه وقد حكاه
ابن رحال أيضا في " شرح المقترح " .
[ ص: 332 ]
والسادس : لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا ، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة . فإن لم يكن مانع قدح . واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي والهندي . وفقد الشرط ملحق بالمانع .
والسابع : يجوز في المستنبطة في صورتين ولا يقدح فيهما ، وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ، ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها ، وهي ما إذا كان التخلف دونهما . وأما المنصوصة فإن كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز . وإن كان قطعيا لم يجز ، أي لم يمكن وقوعه ، لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل ، وهو لا يمكن أن يكون قطعيا ، لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا لا ظنيا ، لأن الظني لا يعارض القطعي . وهذا اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب ، وهو قريب من تفصيل
الآمدي . وحاصله أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام ، ولا في المستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط ، والمنع ظاهر في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط ، فإن كان فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل ، لأنه حينئذ يكون مخصصا للنص القطعي إلا أن يقدروا أن دلالة النص على جميع أفراده قطعية ، لأنه حينئذ لا يمكن التخلف .
والثامن : حكاه القاضي عن بعض
المعتزلة ، أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوها مما لا يكون حظرا ( قال ) : وحملهم على ذلك قولهم : لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح ، ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى .
والتاسع : إن انتقضت على أصل من نصب عليته لم يلزمه بها الحكم ، وإن اطردت على أصل من أوردها ألزم حكاه
الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين ( قال ) : وهو حشو من الكلام لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى .
[ ص: 333 ]
والعاشر : أنه يمنع المستدل من الاستدلال بالمنقوض ، ولا يدل على فساده ، لأن الدليل قد يكون صحيحا وينقضه المستدل به على نفسه ، ولا يكون انتقاضه على أصله دليلا على فساد دليله في نفسه . حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور .
والحادي عشر : إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها ، لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه . ومثله لا ينقض ، وإنما تجيء المناقضة على الطرد . حكاه
ابن السمعاني عن
أبي زيد ، ورده بأن النقض يثير فقد تأثير العلة .
والثاني عشر : وهو اختيار
إمام الحرمين : إن كانت العلة مستنبطة ، فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته ، لكون المذكور أولا جزءا من العلة وليست علة تامة . وإن لم يتجه فرق بينهما ، فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت عليته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة . وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهو موضع التوقف ، فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علية العلل تعللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضها تقصير ، وهي آكد في الإبطال من المعارضة ، فإن علة المعارضة لا تعرض لعلة المستدل وهذه متعرضة لها . هذا رأيه في المستنبطة . وحاصله أن النقض قادح فيما إذا لم يقدح فرق ، أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه ، أو لم يكن ثابتا بقطعي ، أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض يعني تعارض العلة التي ذكرها المستدل ومنعها من الجريان . وإن لم يكن كذلك فالتوقف . وقال
ابن عطاء الله في " مختصر البرهان " : الصواب في هذا أن ينظر : فإن كانت العلة المعارضة لعلة المعلل في الصورة المناقضة أقوى في المناسبة لم تبطل علته ، لأن تخلف الحكم لعارض راجح . وإن كانت أدنى بطلت ، وإن تساوتا فالوقف ( انتهى ) .
[ ص: 334 ] وأما المنصوصة فإن كانت بنص ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل بأن ظهر ذلك من مقتضى لفظه ، فتخصيص الظاهر وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص فلا مطمع في تخصيصها ، لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد ، ونص الشارع لا يصادم ، وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمنع من ذلك .
وقال
إلكيا : ميل الإمام إلى أنه إن كان لا يتجه في صورة النقض معنى أمكن تقدير مشابهة محل النزاع إياها في ذلك المعنى فلا يعد نقضا ، فإن منشأ النقض عنده أن يبين كون محل النزاع نازعا إلى أصلين متنافيين وليس أحدهما بأولى من الآخر . فإنه إذا كانت شهادة الأصل متأيدة بالمعنى فلا شهادة بصورة النقض من حيث لا مشابهة فاعتبار وجه الشهادة أولى . قال
إلكيا : وهذا حسن بين ، فلو كان يتجه معه ولو على بعد فإن ذلك يعد نقضا . وحاصله أن النقض لا يبطل أصل الدلالة ولكن يقدح في ثبوتها فلا يتبين به انعدامه . قال
إلكيا : والذي عندنا أن ما لا يبين به معين ولا يتأتى فيه وجه تشبيه فهو لا ينفك عن ظهور استثناء في مقصود الشرع . هذا في العلل المخيلة ، أما الأشباه فستأتي مراتبها . ثم قال : والحاصل أن شهادة العلة إن ترجحت قطعا على شهادة صورة النقض لمحل النزاع فلا نقض به . فعلى هذا النقض ليس أصلا بنفسه ولكن هو من قبيل المعارضة ، وفيها مزيد قوة لما تقدم .
والثالث عشر : وهو اختيار
الغزالي فقال :
nindex.php?page=treesubj&link=21935_21933تخلف الحكم عن العلة له ثلاث صور :
إحداها : أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها ، وهو
[ ص: 335 ] ينقسم إلى : ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استيفاء قاعدة القياس ، فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى ، فيكون علة في غير محل الاستثناء ، ولا فرق بين أن يرد على علة مقطوعة ، كإيجاب صاع من التمر في المصراة وضرب الدية على العاقلة ، أو مظنونة ، كالعرايا ، فإنها لا تقتضي التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا . ودليل كونه يستثنى أنه يرد على كل علة ، كالكيل وغيره .
وأما إذا لم يرد مورد الاستثناء فإن كانت منصوصة قدح ، لأنه تبين بعد النقض أن النص إنما فيه بعض العلة وجزؤها ، فإن قيده في العلة تمت ، كقولنا : خارج فتنتقض الطهارة ، أخذا من قوله : ( الوضوء مما خرج ) ثم بان أنه لم يتوضأ عن الحجامة ، فيعلم أن العلة بتمامها لم تذكر في الحديث وأن العلة إنما هي الخارج من السبيلين فكان مطلق الخروج بعض العلة . وإن لم يكن كذلك وجب تأويل التعليل وأنه غير مراد ، لقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ثم علل ذلك بقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=4ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } ومعلوم أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب فتكون العلة منصوصة ولا يقال : إنه علة في حقهم خاصة لأنه يعد تهافتا في الكلام ، فثبت أن الحكم المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور ، بل هو لازمه أو جزؤه الأعم ، وهو كونه عذابا ، ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب بخراب البيت أو بغيره . وإن كانت العلة مستنبطة فإن انقدح جواب عن محل النقض تبين أن ما ذكرناه ليس تمام العلة . وإن لم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون
[ ص: 336 ] النقض دليلا على فساد العلة وأن يكون معرفا لتخصيصها ، فهذا يجب الاحتراز عنه بينهم في الجدل للمناظر . وأما المجتهد المناظر فيحتمل إلحاقه به ، فيجب عليه اعتقاد فسادها ، ويحتمل أن يعتقد استناده رخصة .
الثانية : أن تنتفي العلة ، لا لخلل في نفسها ، لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى ، فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم حاصل فيه تقديرا . كقولنا : إن علة رق الولد ملك الأم ثم وجدنا المغرور بحرية أمه ينعقد ولده حرا ، فقد وجد رق الأم وانتفى رق الولد . لكن عارضته علة أخرى وهي وجوب الغرم على المغرور ، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لم تجب قيمة الولد .
الثالثة : أن يميل النقض عن صوب جريان العلة ويتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها وشرطها وأهلها . كقولنا : السرقة علة القطع ، وقد وجدت في حق النباش ، فينتقض بسرقة الصبي ونحوه ، أو دون النصاب ، أو من غير حرز . فهذا لا يلتفت إليه المجتهد ، لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها ، فهو مائل عن صوب نظره . أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر ، وليس البحث عن المحل والشرط . واختلف فيه الجدليون ، والخطب فيه سهل ، وتكليف الاحتراز جمع لنشر الكلام ، وهو تفصيل حسن .
nindex.php?page=treesubj&link=21926_21927الْأَوَّلُ النَّقْضُ
وَقَدَّمْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ آخِرِ الْأَسْئِلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَيَانِهِ فِي الْمُنَاظَرَاتِ ، وَبِالْجَوَابِ عَنْهُ يَبِينُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَيَنْدَفِعُ تَعَارُضُهَا وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ . فَإِنْ كَانَ فِي الْمُنَاظَرَةِ اُشْتُرِطَ فِي صِحَّتِهِ
[ ص: 330 ] اعْتِرَافُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ . وَتَسْمِيَتُهُ نَقْضًا صَحِيحٌ عِنْدَ مَنْ رَآهُ قَادِحًا . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهُ قَدْحًا فَلَا يُسَمِّيهِ نَقْضًا بَلْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ . وَقَدْ بَالَغَ
أَبُو زَيْدٍ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُسَمِّيه نَقْضًا ، كَقَوْلِنَا فِيمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ النِّيَّةَ : صَوْمٌ تَعَرَّى أَوَّلُهُ عَنْ النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ ، فَيُقَالُ : فَيَنْتَقِضُ بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ . وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا مَنْصُوصَةٌ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا إمَّا لِمَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ دُونَهُمَا . فَصَارَتْ الصُّوَرُ تِسْعًا ، مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا : طَرَفَانِ ، وَالْبَاقِي أَوْسَاطٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ أَوْ لَا لِمَانِعٍ وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ
الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ كَمَا حَكَاهُ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ . وَهُوَ اخْتِيَارُ
أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ، وَنَسَبُوهُ إلَى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَرَجَّحُوا أَنَّهُ مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ ، لِأَنَّ عِلَلَهُ سَلِيمَةٌ عَنْ الِانْتِقَاضِ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا ، وَأَنَّ النَّقْضَ يُشْبِهُ تَجْرِيحَ الْبَيِّنَةِ الْمُعَدَّلَةِ ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِيَانِ
أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ .
وَالثَّانِي : لَا يَقْدَحُ مُطْلَقًا فِي كَوْنِهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ النَّقْضِ ، وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفُ شَرْطٍ . وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=16867وَمَالِكٍ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ .
[ ص: 331 ]
وَقَالَ
الْبَاجِيُّ : حَكَاهُ
الْقَاضِي وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا أَقَرَّ بِهِ وَلَا نَصَرَهُ . وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَالِّهَا وَمَوَارِدِهَا كَالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْضُوعَاتِهَا ، فَكَمَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَإِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَعْلُولِ ، إذْ هُوَ مَعْنَاهَا ، فَإِذَا انْتَفَى الِاسْتِلْزَامُ فَقَدْ انْتَفَى لَازِمُ الْعِلَّةِ فَتَنْتَفِي الْعِلِّيَّةُ . وَهَذَا مُفَارِقٌ الْعَامَّ ، لِأَنَّ الْعَامَّ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ إلَى الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَتِلْكَ لَا تَنْتَفِي بِالتَّخْصِيصِ ، وَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ إلَى الْإِرَادَةِ لِلْبَاقِي .
وَالثَّالِثُ : لَا يَقْدَحَ فِي الْمَنْصُوصَةِ ، وَيَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ . وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14979الْقُرْطُبِيُّ ، وَحَكَاهُ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُعْظَمِ فَقَالَ : ذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ النَّقْضَ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ . ثُمَّ قَالَ : مَسْأَلَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21927_21926عِلَّةِ الشَّارِعِ هَلْ يَرِدُ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ طَرْدَهَا ؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ بِخِلَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ ، فَإِنَّ مُسْتَنَدَهُ ظَنِّيٌّ . وَإِذَا تَبَاعَدَ مَا اسْتَنْبَطَهُ عَنْ الْجَرَيَانِ ضَعُفَتْ مَسَالِكُ ظَنِّهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ . وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ " : زَعَمَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ إذَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ لَمْ يَقْدَحْ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهِ . وَالْمُرَادُ بِالْمَنْصُوصَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً بِالصَّرِيحِ أَوْ بِالْإِيمَاءِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " وَحَكَى بَعْضُ الْمُنَاظِرِينَ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ وَيَقْدَحُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ .
وَالرَّابِعُ : يُبْطِلُ الْمَنْصُوصَةَ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ ، عَكْسُ مَا قَبْلَهُ . حَكَاهُ
ابْنُ رَحَّالٍ فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ " . وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ .
وَالْخَامِسُ : لَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إذَا كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ شَرْطٍ ، وَيَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ حَكَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنُ الْحَاجِبِ . وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَقَالُوا : لَعَلَّهُ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ
الْآمِدِيَّ ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَنْدَفِعُ مِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ حَكَاهُ
ابْنُ رَحَّالٍ أَيْضًا فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ " .
[ ص: 332 ]
وَالسَّادِسُ : لَا يَقْدَحُ حَيْثُ وُجِدَ مَانِعٌ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ قَدَحَ . وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13926الْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ . وَفَقْدُ الشَّرْطِ مُلْحَقٌ بِالْمَانِعِ .
وَالسَّابِعُ : يَجُوزُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فِي صُورَتَيْنِ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا ، وَهُمَا مَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ أَوْ انْتِفَاءِ شَرْطٍ ، وَلَا يَجُوزُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقْدَحُ فِيهَا ، وَهِيَ مَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ دُونَهُمَا . وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَإِنْ كَانَ النَّصُّ ظَنِّيًّا وَقُدِّرَ مَانِعٌ أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ جَازَ . وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَجُزْ ، أَيْ لَمْ يُمْكِنْ وُقُوعُهُ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ تَخَلَّفَ لَتَخَلَّفَ الدَّلِيلُ ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا ، لِاسْتِحَالَةِ تَعَارُضِ الْقَطْعِيَّيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لَا ظَنِّيًّا ، لِأَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ . وَهَذَا اخْتِيَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنِ الْحَاجِبِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَفْصِيلِ
الْآمِدِيَّ . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ إلَّا بِظَاهِرٍ عَامٍّ ، وَلَا فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إلَّا لِمَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ ، وَالْمَنْعُ ظَاهِرٌ فِي النَّصِّ الْقَطْعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَلَا فَوَاتُ شَرْطٍ ، فَإِنْ كَانَ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَانِعُ أَوْ الشَّرْطُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ إلَّا أَنْ يُقَدِّرُوا أَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّفُ .
وَالثَّامِنُ : حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ
الْمُعْتَزِلَةِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عِلَّةِ الْحِلِّ وَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ حَظْرًا ( قَالَ ) : وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ عَنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى قَبِيحٍ ، وَيَصِحُّ الْإِقْدَامُ عَلَى عِبَادَةٍ مَعَ تَرْكِ أُخْرَى .
وَالتَّاسِعُ : إنْ انْتَقَضَتْ عَلَى أَصْلٍ مَنْ نَصَبَ عِلِّيَّتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَا الْحُكْمُ ، وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَلَى أَصْلِ مَنْ أَوْرَدَهَا أُلْزِمَ حَكَاهُ
الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ( قَالَ ) : وَهُوَ حَشْوٌ مِنْ الْكَلَامِ لَوْلَا أَنَّهُ أَوْدَعَ كِتَابًا مُسْتَعْمَلًا لَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى .
[ ص: 333 ]
وَالْعَاشِرُ : أَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُسْتَدِلَّ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْقُوضِ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَيَنْقُضُهُ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَكُونُ انْتِقَاضُهُ عَلَى أَصْلِهِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ دَلِيلِهِ فِي نَفْسِهِ . حَكَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16392الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ .
وَالْحَادِيَ عَشَرَ : إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً لَمْ يَرِدْ النَّقْضُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ . وَمِثْلُهُ لَا يُنْقَضُ ، وَإِنَّمَا تَجِيءُ الْمُنَاقَضَةُ عَلَى الطَّرْدِ . حَكَاهُ
ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ
أَبِي زَيْدٍ ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّقْضَ يُثِيرُ فَقْدَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ .
وَالثَّانِي عَشَرَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ
إمَامِ الْحَرَمَيْنِ : إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً ، فَإِنْ اتَّجَهَ فَرْقٌ بَيْنَ مَحَلِّ التَّعْلِيلِ وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ ، لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ عِلَّةً تَامَّةً . وَإِنْ لَمْ يَتَّجِهْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ ثَابِتًا بِمَسْلَكٍ قَاطِعٍ سَمْعِيٍّ بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُنَاقَضٌ بِهَا وَتَارِكٌ لِلْوَفَاءِ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ . وَإِنْ طَرَدَ مَسْأَلَةً إجْمَاعِيَّةً لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحَلِّ الْعِلَّةِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهَا عَلَى مُنَاقَضَةِ عِلِّيَّةِ الْعِلَلِ تَعَلُّلًا بِعِلَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ جَارِيَةٍ فَوُرُودُهَا يَنْقُضُ الْعِلَّةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَنَعَتْ الْعِلَّةَ مِنْ الْجَرَيَانِ وَعَارَضَهَا تَقْصِيرٌ ، وَهِيَ آكِدٌ فِي الْإِبْطَالِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْمُعَارَضَةِ لَا تَعْرِضُ لِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ وَهَذِهِ مُتَعَرِّضَةٌ لَهَا . هَذَا رَأْيُهُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ . وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّقْضَ قَادِحٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْدَحْ فَرْقٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِقَطْعِيٍّ ، أَوْ كَانَ ثَابِتًا بِإِجْمَاعٍ وَفِي مَحَلِّ النَّقْضِ يَعْنِي تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ وَمَنَعَهَا مِنْ الْجَرَيَانِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالتَّوَقُّفُ . وَقَالَ
ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي " مُخْتَصَرِ الْبُرْهَانِ " : الصَّوَابُ فِي هَذَا أَنْ يَنْظُرَ : فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ فِي الصُّورَةِ الْمُنَاقِضَةِ أَقْوَى فِي الْمُنَاسَبَةِ لَمْ تَبْطُلْ عِلَّتُهُ ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ لِعَارِضٍ رَاجِحٌ . وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى بَطَلَتْ ، وَإِنْ تَسَاوَتَا فَالْوَقْفُ ( انْتَهَى ) .
[ ص: 334 ] وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَإِنْ كَانَتْ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ فَيَظْهَرُ بِمَا أَوْرَدَهُ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُرِدْ التَّعْلِيلَ بِأَنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ ، فَتَخْصِيصُ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَإِنْ عَمَّ بِصِيغَةٍ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا تَخْصِيصٌ فَلَا مَطْمَعَ فِي تَخْصِيصِهَا ، لِقِيَامِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَجَرَيَانِهَا عَلَى اطِّرَادٍ ، وَنَصُّ الشَّارِعِ لَا يُصَادِمُ ، وَإِنْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى تَخْصِيصِهِ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً لِمَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ
إلْكِيَا : مَيْلُ الْإِمَامِ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَتَّجِهُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَعْنًى أَمْكَنَ تَقْدِيرُ مُشَابَهَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ إيَّاهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يُعَدُّ نَقْضًا ، فَإِنَّ مَنْشَأَ النَّقْضِ عِنْدَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ نَازِعًا إلَى أَصْلَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ . فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مُتَأَيِّدَةً بِالْمَعْنَى فَلَا شَهَادَةَ بِصُورَةِ النَّقْضِ مِنْ حَيْثُ لَا مُشَابَهَةَ فَاعْتِبَارُ وَجْهِ الشَّهَادَةِ أَوْلَى . قَالَ
إلْكِيَا : وَهَذَا حَسَنٌ بَيِّنٌ ، فَلَوْ كَانَ يَتَّجِهُ مَعَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ نَقْضًا . وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّقْضَ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الدَّلَالَةِ وَلَكِنْ يَقْدَحُ فِي ثُبُوتِهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْعِدَامُهُ . قَالَ
إلْكِيَا : وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ مَا لَا يُبَيَّنُ بِهِ مُعَيَّنٌ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ وَجْهُ تَشْبِيهٍ فَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ظُهُورِ اسْتِثْنَاءٍ فِي مَقْصُودِ الشَّرْعِ . هَذَا فِي الْعِلَلِ الْمُخَيَّلَةِ ، أَمَّا الْأَشْبَاهُ فَسَتَأْتِي مَرَاتِبُهَا . ثُمَّ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَةَ الْعِلَّةِ إنْ تَرَجَّحَتْ قَطْعًا عَلَى شَهَادَةِ صُورَةِ النَّقْضِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا نَقْضَ بِهِ . فَعَلَى هَذَا النَّقْضُ لَيْسَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ ، وَفِيهَا مَزِيدُ قُوَّةٍ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّالِثَ عَشَرَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْغَزَالِيِّ فَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=21935_21933تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ :
إحْدَاهَا : أَنْ يَعْرِضَ فِي جَرَيَانِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ اطِّرَادِهَا ، وَهُوَ
[ ص: 335 ] يَنْقَسِمُ إلَى : مَا يَظْهَرُ أَنَّهُ وَرَدَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ اسْتِيفَاءِ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ بَلْ يُخَصِّصُهَا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، فَيَكُونُ عِلَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى عِلَّةٍ مَقْطُوعَةٍ ، كَإِيجَابِ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ فِي الْمُصَرَّاةِ وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، أَوْ مَظْنُونَةٍ ، كَالْعَرَايَا ، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِالطُّعْمِ إذْ فُهِمَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ لِرُخْصَةِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يَرِدْ وُرُودَ النَّسْخِ لِلرِّبَا . وَدَلِيلُ كَوْنِهِ يُسْتَثْنَى أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ ، كَالْكَيْلِ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً قَدَحَ ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بَعْدَ النَّقْضِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا فِيهِ بَعْضُ الْعِلَّةِ وَجُزْؤُهَا ، فَإِنْ قَيَّدَهُ فِي الْعِلَّةِ تَمَّتْ ، كَقَوْلِنَا : خَارِجٌ فَتَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ : ( الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ ) ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ عَنْ الْحِجَامَةِ ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ بِتَمَامِهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَكَانَ مُطْلَقُ الْخُرُوجِ بَعْضَ الْعِلَّةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ التَّعْلِيلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=4ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ فَتَكُونُ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ عِلَّةٌ فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَهَافُتًا فِي الْكَلَامِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ بِذَلِكَ لَيْسَ هُوَ التَّخْرِيبُ الْمَذْكُورُ ، بَلْ هُوَ لَازِمُهُ أَوْ جُزْؤُهُ الْأَعَمُّ ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَذَابًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِخَرَابِ الْبَيْتِ أَوْ بِغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَإِنْ انْقَدَحَ جَوَابٌ عَنْ مَحَلِّ النَّقْضِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ تَمَامَ الْعِلَّةِ . وَإِنْ لَمْ يَنْقَدِحْ جَوَابٌ مُنَاسِبٌ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ
[ ص: 336 ] النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا لِتَخْصِيصِهَا ، فَهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَدَلِ لِلْمُنَاظِرِ . وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُنَاظِرُ فَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِهِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ فَسَادِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتَقِدَ اسْتِنَادَهُ رُخْصَةً .
الثَّانِيَةُ : أَنْ تَنْتَفِيَ الْعِلَّةُ ، لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِهَا ، لَكِنْ يَنْدَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى ، فَهَذَا لَا يَرِدُ نَقْضًا لِأَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ فِيهِ تَقْدِيرًا . كَقَوْلِنَا : إنَّ عِلَّةَ رِقِّ الْوَلَدِ مِلْكُ الْأُمِّ ثُمَّ وَجَدْنَا الْمَغْرُورَ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ يَنْعَقِدُ وَلَدُهُ حُرًّا ، فَقَدْ وُجِدَ رِقُّ الْأُمِّ وَانْتَفَى رِقُّ الْوَلَدِ . لَكِنْ عَارَضَتْهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ وُجُوبُ الْغُرْمِ عَلَى الْمَغْرُورِ ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ الْمُنْدَفِعِ لَمْ تَجِبْ قِيمَةُ الْوَلَدِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَمِيلَ النَّقْضُ عَنْ صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ وَيَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا وَشَرْطَهَا وَأَهْلَهَا . كَقَوْلِنَا : السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي حَقِّ النَّبَّاشِ ، فَيَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ . فَهَذَا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ ، لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ دُونَ شَرْطِهَا وَمَحَلِّهَا ، فَهُوَ مَائِلٌ عَنْ صَوْبِ نَظَرِهِ . أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْعُذْرُ بِأَنَّ هَذَا مُنْحَرِفٌ عَنْ مَقْصِدِ النَّظَرِ ، وَلَيْسَ الْبَحْثُ عَنْ الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ . وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْجَدَلِيُّونَ ، وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ ، وَتَكْلِيفُ الِاحْتِرَازِ جَمْعٌ لِنَشْرِ الْكَلَامِ ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ .