الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة قال في " المقترح " : للعلة أسماء في الاصطلاح ، وهي : السبب ، والإشارة ، والداعي ، والمستدعي ، والباعث ، والحامل ، والمناط ، والدليل ، والمقتضي ، والموجب ، والمؤثر . انتهى . وزاد بعضهم : المعنى . والكل سهل غير السبب والمعنى . [ ص: 147 ] أما السبب : فهو متميز عن العلة من جهة الاصطلاح الكلامي والأصولي والفقهي واللغوي . أما اللغوي فقال أهل اللغة : السبب ما يتوصل به إلى غيره . ولو بوسائط ، ومنه سمي الحبل سببا ، وذكروا للعلة معاني يدور القدر المشترك فيها على أنها تكون أمرا مستمدا من أمر آخر وأمرا مؤثرا في آخر . وقال أكثر النحاة : اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية ، وقالوا الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل . وصرح ابن مالك بأن الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران . وأما الكلامي : فاعلم أنهما يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين : أحدهما : أن السبب ما يحصل الشيء عنده لا به ، والعلة ما يحصل به .

                                                      والثاني : أن المعلول متأخر عن العلة بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده ، والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أو بوسائط ، ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع . وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها ، إذا اشترط لها ، بل هي أوجبت معلولا بالاتفاق ، حكى الاتفاق إمام الحرمين والآمدي وغيرهما .

                                                      وأما الأصولي : فقال الآمدي في جدله " : العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم ، كما في القتل العمد العدوان ، فإنه يصح أن يقال : قتل لعلة القتل ، وتارة يطلقونها على حكمة الحكم ، كالزجر الذي هو حكمة القصاص ، فإنه يصح أن يقال : العلة الزجر . وأما السبب : فلا يطلق إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة . انتهى . وأما الفقهي فقال إلكيا : يطلق السبب في اصطلاح الفقهاء على أربعة أمور : [ ص: 148 ] أحدها : السبب الذي يقال : إنه مثل العلة كالرمي ، فإنه سبب حقيقة إلا أنه في حكم العلة ، لأن عين الرمي لا أثر له في الحكم حيث لا فعل منه ، ومنه الزنى . الثاني : ما يكون الطارئ مؤثرا ولكن تأثيره مستند إلى ما قبله ، فهو سبب من حيث استناد الحكم إلى الأول لا استناد الوصف الآخر إلى الأصل . الثالث : ما ليس سببا بنفسه ولكن يصير سببا بغيره ، كقولهم : القصاص وجب ردعا وزجرا ، ثم قالوا : وجب لسبب القتل ، إذ القتل علة القصاص ، فقطعوا الحكم عن العلة ، وجعلوه متعلقا بالعلة ، والعلة غير الحكم . واعلم أنه لولا الحكمة لكان الحكم صورة غير صالحة للحكم ، فبالحكمة خرج عن كونه صورة ، والعلة صارت جالبة للحكم بمعناها لا بصورتها ، ودون الحكمة لا شيء إلا صورة الفعل ، والصورة لا تكون علة قط ، فعلى هذا ، الحكمة راجعة إلى العلة فلا علة بدونها ، والخلاف يرجع إلى اللفظ . الرابع : ما يسمى سببا مجازا من حيث إنه سبب لما يجب ، كقولهم الإمساك سبب القتل ، وليس سبب القتل حقيقة ، فإنه ليس يفضي إلى القتل ، بل القتل باختيار القاتل ، ولكنه سبب للتمكن من القتل بإلحاق ، وقيل : سبب القتل . فالأسباب لا تعدو هذه الوجوه

                                                      . انتهى . وقال في " تعليقه " : المتكلمون لا يفرقون بين العلة والسبب ، والفقهاء يقولون : العلة هي التي يعقبها الحكم ، والسبب ما تراخى عنه الحكم ووقف على شرط أو شيء بعده . وفرق غيره بين السبب والحكمة ، بأن السبب يتقدم على الحكم ، والحكمة متأخرة عن الحكم ، والحكم مفيد لها ، كالجوع سبب الأكل ، ومصلحة رفع الجوع وتحصيل الشبع حكمة له . وقد ذكر الغزالي في الفقهيات أن الفعل الذي له مدخل في زهوق الروح [ ص: 149 ] إن لم يؤثر في الزهوق ولا فيما يؤثر فيه فهو " الشرط " ، كحفر البئر التي يتردى فيها مترد .

                                                      وإن أثر فيه وحصله فهو " العلة " كالقد والحز . وإن لم يؤثر في الزهوق ولكن أثر فيما يؤثر في حصوله فهو " السبب " كالإكراه ، ولا يتعلق القصاص بالشرط قطعا ، ويتعلق بالعلة قطعا ، وفي السبب خلاف وتفصيل . وإذا تبين أن العلة فوق السبب ، صح الحكم بتقاصر رتبته عن المباشرة كما قرروه في كتاب الجراح من أن المباشرة علة ، والعلة أقوى من السبب ، ومن نظائر المسألة : لو أن رجلا فتح زقا بحضرة مالكه فخرج ما فيه والمالك يمكنه التدارك فلم يفعل ففي وجوب الضمان على الفاتح وجهان ، ولو رآه يقتل عبده أو يحرق ثوبه فلم يمنعه مع قدرته على المنع وجب الضمان وجها واحدا . والفرق أن القتل والتحريق مباشرة ، وفتح الزق سبب ، والسبب قد يسقط حكمه مع القدرة على منعه ، بخلاف العلة لاستقلالها في نفسها . وإنما قلنا : قد يسقط حكمه ولم نجعل السقوط مطردا لأن الإنسان لو صالت عليه بهيمة غيره وأمكنه الهرب فلم يهرب ففي الضمان وجهان :

                                                      أحدهما : يضمن وهو بعدم هروبه مفرط في حق نفسه .

                                                      والثاني : لا يضمن لوقوع الصيال ، وهذا الوجه أرجح منه في مسألة الزق ، لأن الإنسان قد يحصل له عند الصيال دهشة تشغله عن الدفع .

                                                      وقال القفال الشاشي : الطرق في التمييز بين العلة والسبب والشرط : أنا ننظر إلى الشيء إن جرى مقارنا للشيء وأثر فيه فهو " العلة " ، أو غير مقارن ولا تأثير للشيء فيه دل على أنه " سبب " . وأما " الشرط " فهو ما يختلف الحكم بوجوده . وهو مقارن غير مفارق للحكم كالعلة سواء إلا أنه لا تأثير له فيه وإنما هو علامة على الحكم من غير تأثير أصلا .

                                                      وقال ابن السمعاني رحمه الله : الشرط ما يتغير الحكم بوجوده ، [ ص: 150 ] والسبب لا يوجب تغير الحكم بل يوجب مصادفته وموافقته . ثم ذكر كلام القفال ، ويتفرع على هذا الأصل مسألة خلافية مقصودة في نفسها . قال علماؤنا : الشرط إذا اتصل بالسبب ولم يكن مبطلا كان تأثيره في حكم تأخر السبب إلى حين وجوده لا في منع وجوده ، ومثاله إذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فالسبب قوله : " فأنت طالق " لأن " أنت طالق " ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدونه ، غير أن الشرط أوقف حكمه إلى وقت وجوده ، فتأثير الشرط إنما هو في منع حكم العلة ، لا في نفس العلة ، بدليل أنه لو لم يقترن به الشرط ثبت حكم العلة . وربما عبروا عن هذا بأن الشرط لا يبطل السببية ، ولكن يؤخر حكمها ، والسبب ينعقد ولكن الشرط يرفعه ويؤخر حكمه فإذا ارتفع الشرط عمل السبب عمله ، ومن ثم يقولون : الصفة وقوع لا إيقاع ، والشرط عندهم قاطع طريق يضر ولا ينفع ، إذ لا مدخل له في التأثير نفيا وإثباتا ، وإنما هو توقف عن الحكم . ومن هذا يعلم أنها إذا دخلت طلقت لكونه قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، لا لكونها دخلت . قال أصحابنا من علق الطلاق فقد نجز السبب ، والمعلق إنما هو عمل السبب لا نفسه ، وقد وافقنا على ذلك المالكية والحنابلة ، وقال أبو حنيفة : الشرط يمنع انعقاد السبب في الحال وخرجه بعض المتأخرين وجها في مذهبنا من قول بعض أصحابنا في المسألة السريجية : إنه يقع المنجز وطلقتان معه أو بعده من المعلق ، وربما قال أبو حنيفة : الشرط داخل على نفس العلة لا على حكمها . قال : والشرط يحول بين العلة ومحلها . فلا تصير علة معه . والظاهر مذهب الشافعي لأن الشرط لا مدخل له في التأثير فكيف يمنع العلية . وعلى هذا الأصل مسائل :

                                                      منها : تعليق الطلاق أو العتق بالملك عندنا باطل لأنه لم يصادف عندنا وقت التعليق محلا قابلا لما يعرف به منه ، وقد بينا أن التعليق لا يمنع السببية ، [ ص: 151 ] وإذا لم يمنعها انعقدت ، وانعقاد العتق والطلاق في غير زوجة ورقيق غير معقول . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، بناء على أصل : لما منع التعليق السببية لم يكن منعقدا فلم يكن الطلاق والعتق في غير مملوك بل هو إنما هي في مملوك ، لأن العلة تأخرت إلى زمن الملك فالموجود وقت التعليق لفظ العلة لا نفسها وقد قطعها التعليق . تنبيه

                                                      قد عرفت حكم كلمة الشرط المسلطة على الأسباب ، وأن الشافعي يقول : إنها لا ترفع السببية بل توقف حكمها ، وأبو حنيفة يقول : بل ترفعها ولكن لا مطلقا بل إلى وقت وجود الصفة . وبالغ القاضي ابن سريج رحمه الله فقال بمذهب الشافعي في انعقاد السببية ، وزاد أن الشرط يلغى بالكلية ، لكونه ورد قطعا لشيء بعد مضي حكمه ، فقال : إذا علق الطلاق تنجز في الحال ، فهذه مبالغة وقول ضعيف . وبالغ ابن حزم في مذهب أبي حنيفة فقال به ، وزاد أن الشرط منع انعقاد السبب مطلقا ، وأن الطلاق المعلق لا يقع رأسا وجدت الصفة أو لم توجد وهذا خرق للإجماع فتلخص من هذا أن الشرط الداخل على السبب قاطع له عند ابن حزم رأسا ، ويقابله قول ابن سريج : إنه فاسد في نفسه غير معرض للسبب في شيء ولكن ابن سريج يقصر ذلك على ما إذا بدأ بالسبب قبل الشرط ، ولا يقوله فيما إذا عكس فقال : إن دخلت الدار فأنت طالق والجمهور لا يلغون الشرط . ثم اختلفوا : فأشدهم إعمالا الشافعي حيث قال : إنه ينتصب في الحال سببا في ثاني الحال ونقلوه عن أبي حنيفة فإنه قال : لا ينعقد في الحال ولا يكون منهيا ، وإنما ينعقد في ثاني الحال . ومنها : أعني من المسائل المترتبة على أنه هل انعقد السبب في حال [ ص: 152 ] التعليق ، كما يقوله أبو حنيفة ، أو لم ينعقد كما هو الصحيح عندنا في موضع الشهود أن الغرم على شهود التعليق دون شهود الصفة في الطلاق والعتق .

                                                      وفي وجه أراه أنه مذهب أبي حنيفة أنه عليهم جميعا . وقد أشبع إمام الحرمين هذا الأصل تقريرا في الخلافيات ثم عاد عنه في الفروع فقال : وقد حكى قول الأستاذ فيمن قال : وقفت داري بعد الموت ، وساعده أئمة الزمان إن هذا تعليق على التحقيق ، بل هو زائد عليه ، فإنه إيقاع تصرف بعد الموت قال الرافعي : كأنه وصية بدليل أنه لو عرض الدار على البيع صار راجعا . وأما " المعنى " فقال الماوردي في " الحاوي " عبر بعض الفقهاء عن " المعنى " " بالعلة " وهو تجوز ، والتحقيق أنهما يجتمعان من وجهين :

                                                      أحدهما : أن حكم الأصل موجود في المعنى والعلة .

                                                      وثانيهما : أن العلة والمعنى موجودان في الفرع والأصل . ويفترقان من وجوه :

                                                      أحدها : أن العلة مستنبطة من المعنى وليس المعنى مستنبطا من العلة لتقدم المعنى وحدوث العلة .

                                                      والثاني : أن العلة تشتمل على معان ، والمعنى لا يشتمل على علل ، لأن الطعم والجنس معنيان وهما علة الربا .

                                                      والثالث : أن المعنى ما يوجب به الحكم في الأصل حتى يتعدى إلى الفرع والعلة اجتذاب حكم الأصل إلى الفرع ، فصار " المعنى " ما ثبت به حكم الأصل ، والعلة ما ثبت به حكم الفرع .

                                                      ثم يجتمع العلة والمعنى في اعتبار أربعة شروط : أن يكون المعنى مؤثرا في الحكم ، وأن يسلم المعنى ولا يردهما نص ولا إجماع ، وأن لا يعارضهما من المعاني والعلل أقوى منهما ، وأن يطرد المعنى والعلة فيوجد الحكم [ ص: 153 ] بوجودهما ويسلمان من نقض أو كسر ، فإن عارضهما نقض أو كسر لعدم الحكم مع وجودهما فسد وبطلت العلة ، لأن فساد العلة يرفعها ، وفساد المعنى لا يرفعه ، لأن المعنى لازم والعلة طارئة ، لأن الكيل إذا بطل أن يكون علة في الربا في البر لم يبطل أن يكون الكيل باقيا في البر ، فيصير التعليل باطلا والمعنى باقيا ، ولا يجوز تخصيص المعاني من العلل المستنبطة ، وفي المنصوصة وجهان . والثاني وقوف العلة على حكم النص وعدم تأثيرها فيما عداها هل يصح ؟ فيه وجهان .

                                                      وأما " المظنة " فهي معدن الشيء قال صاحب " المقترح " من غلط الطلبة تسمية العلة مظنة . قال شارحه : يريد أنهم غلطوا في إطلاق اسم المظنة على كل علة ، وإنما تطلق في الاصطلاح على بعض العلل ، ولها دلالتان : دلالة على المعنى ، ودلالة على الحكم الشرعي ، فهي إذا أضيفت إلى المعنى الوجودي سميت مظنة .

                                                      وإذا أضيفت إلى الحكم الشرعي سميت علة له ، ومن عكس ذلك فقد غلط . فالسفر مثلا يدل على المشقة ويدل على الرخصة ، فإذا أضفته إلى المشقة قلت هو مظنة ، وإذا أضفته إلى الرخصة قلت هو علة له ، فالسفر مظنة المشقة ، وعلة الرخصة وهذا أمر يرجع إلى اصطلاح جدلي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية