الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 200 ] فصل

                                                      في ذكر أمور اشترطت في العلة والصحيح عدم اشتراطها منها : شرط الحنفية وأبو عبد الله البصري تعدي العلة من الأصل إلى غيره ، فلو وقعت على حكم النص ولم تؤثر في غيره كتعليل الربا في الذهب والفضة بأنهما أثمان فلا يعلل بهما . واعلم أن العلة القاصرة إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها صح التعليل بها بالاتفاق ، كما قاله القاضي وابن برهان والهندي وغيرهم ، لكن القاضي عبد الوهاب نقل عن قوم أنها لا تصح على الإطلاق ، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة ; قال : وهذا قول أكثر فقهاء العراق ، وإن كانت مستنبطة فهي محض الخلاف . وقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                      أحدهما : ونقله في " الحاوي " عن أبي بكر القفال المنع ، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني في " الاصطلام " ، لأن العلة ما جذبت حكم الأصل إلى فرعه . ونقل إمام الحرمين عن الحليمي ما يقتضيه فقال : من ينشئ النظر لا يدري أيقع على علة قاصرة أو متعدية ، فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء النظر ، فيجب النظر من هذه الجهة . قال الإمام : وهذا قليل النيل ، فإن الخصم لا ينكر . وهذا الخلاف فيما تحقق قصوره ، فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر والعلة قاصرة انتهى .

                                                      وأصحهما : ونصره في " القواطع " تبعا للقاضي أبي بكر ، وبه قال جمهور أصحابنا : إنها علة وإن لم يتعد حكم الأصل ، وقال القاضي عبد الوهاب : هو قول جميع أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكاه الآمدي عن أحمد ، لكن أبو الخطاب حكى عن أصحابهم مقابله . وقال ابن برهان في " الوجيز " : كان الأستاذ أبو إسحاق من الغلاة في تصحيح العلة القاصرة ، ويقول : هي أولى من المتعدية وكذلك القاضي واحتجوا بأن [ ص: 201 ]

                                                      وقوفها يقتضي نفي الحكم عن غير الأصل ، كما أوجب تعديها ثبوت حكم الأصل في غيره ، فصار وقوفها مؤثرا في النفي ، كما كان تعديها مؤثرا في الإثبات فاستفيد بوقوفها وتعديها حكم غير الأصل ، فعلى هذا ثبوت الربا في الذهب والفضة بالمعنى دون الاسم .

                                                      ويخرج مما سبق حكاية مذهب ثالث : وهو الجواز في المنصوصة دون المستنبطة . قال عبد الوهاب : وحكاه الهمداني عن أبي عبد الله البصري ، والصحيح الجواز مطلقا . ولهذا فوائد :

                                                      منها : معرفة الباعث المناسب :

                                                      ومنها : عدم إلحاق غيرها . وقولهم : " هذه الفائدة علمت من النص " ممنوع ، فإن النص لم يفد إلا إثبات الحكم خاصة ، وخصه القاضي بما إذا لم يكن هناك غيرها ، وجوزنا اجتماع علتين فباطلاعنا على علة الحكم نزداد علما كنا غافلين عنه والعلم بالشيء أعظم فائدة ، ومن أعظم ما تشوق إليه النفوس الزكية ، ذكره ابن السمعاني .

                                                      ومنها : أن العلة إذا طابقت النص زاده قوة ويتعاضدان . ذكره القاضي .

                                                      ومنها : أن الفاعل يفعل الفعل لأجلها فيحصل له أجران أجر قصد الفعل والامتثال وأجر قصد الفعل لأجلها ، وهذان القصدان يجوز اجتماعهما فيفعل المأمور لكونه أمر بفعله . ذكره بعض المتأخرين .

                                                      ومنها : إذا حدث هناك فرع يشاركه في المعنى علق على العلة وألحق بالمنصوص عليه ، ذكره الماوردي في " الحاوي " في باب الربا والشيخ أبو إسحاق [ ص: 202 ]

                                                      وضعف بأن المسألة مفروضة في القاصرة ، ومتى حدث فرع يشاركها في المعنى خرجت عن أن تكون قاصرة . وقد نقل إمام الحرمين عن بعضهم أن فائدتها أنا إذا عللنا تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية أن يلحق بها التحريم في الفلوس إذا جرت نقودا ، قال الإمام وهذا خرف من قائله وخبط على الفرع والأصل ، فإن المذهب عدم جريان الربا في الفلوس وإن استعملت نقودا فإن النقدية الشرعية مختصة بالمطبوعات ، والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم لو صح هذا قيل لصاحبه : إن دخلت الفلوس تحت الدراهم بالنص فالعلة بالنقدية قائمة ، وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية والمسألة مفروضة في القاصرة .

                                                      ومنها : أنها تفيد بعكسها ، فإذا ثبت ( النقدية ) علة في النقدين فعدم النقدية مشعر بانتفاء تحريم الربا ، والنص على اللقب لا مفهوم له . ورده الإمام بأن الانعكاس لا يتحتم في العلل .

                                                      ومنها : أنه متى زالت الصفة عنه زال الحكم ، ذكره القاضي في " التقريب " ( قال ) : ويجب على هذا تخصيص القاصرة بالتي ثبتت تارة وتزول أخرى وإلا بطلت هذه الفائدة . قلت : ويجوز أن يكون من فوائد الخلاف أنه إذا وجد في مورد النص وصفان قاصر ومتعد وغلب على ظن المجتهد أن القاصرة علة ، هل يمتنع التعليل بالمتعدية أم لا ، فعندنا يمتنع إن منعنا اجتماع علتين ، وعند أبي حنيفة : لا يمتنع لأنه لا اعتبار لغلبة الظن بغلبة الوصف القاصر .

                                                      ومن فوائده : إذا عورضت علة الأصل بوصف قاصر ليقطع القياس فاحتاج إلى دفع المعارضة ، فهل يكفي في إفساد الوصف قصوره أو لا يكون ذلك مفسدا ؟ وهذا هو وجه جعل إمام الحرمين في " البرهان " ( القصور ) من الاعتراضات الفاسدة على القياس ، وإلا لم يكن عنده من الاعتراضات ، إذ القصور ينافي القياس ، ثم اختار إمام الحرمين التفصيل بين أن يكون كلام [ ص: 203 ]

                                                      الشرع نصا لا يحتمل التأويل ، فلا فائدة في التعليل بالقاصرة ، وبين أن يكون ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل ، فإذا نتجت علة توافق ظاهره فهي تعصم من التعليل بعلة أخرى لا ترقى رتبتها على المستنبطة القاصرة ، فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص منه ، متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه من حيث عصمته من التخصيص والتأويل ، وكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية