الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبي (ح) قال: وأخبرني أبو عمرو بن أبي جعفر، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قدمت المدينة من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت أنا ورباح غلام يعني بفرس لطلحة أنديه مع الإبل، فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيا، فخرج فطردها وأناس معه في خيل، فقلت: يا رباح، اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله أن قد أغير على سرحه، وقمت على تل، فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه، ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إلي فارس، جلست له في أصل شجرة، ثم رميت فلا يقبل علي فارس إلا عقرت به، فجعلت أرميهم وأقول:

                                        [ ص: 183 ]

                                        أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

                                        فألحق برجل فأرميه وهو على رحله فيقع سهمي في الرجل، حتى انتظمت كتفه، قلت: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع.

                                        فإذا كنت بالشجرة أحرقتهم، وإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرددتهم بالحجارة، فما زال ذا شأني وشأنهم أتبعهم وأرتجز، حتى ما خلق الله شيئا من ظهر النبي صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري واستنقذته من أيديهم.

                                        قال: ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة، يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه الحجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا امتد الضحى أتاهم [ ص: 184 ] عيينة بن بدر الفزاري مدا لهم وهم في ثنية ضيقة، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم.

                                        قال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح ما فرقنا بسحر حتى الآن وأخذ كل شيء في أيدينا وجعله وراء ظهره، فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم وقال ليقم إليه نفر منكم فقام إلي نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل فلما أسمعهم الصوت قلت لهم: أتعرفوني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع والذي كرم الله وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني، فقال رجل منهم: إني أظن يعني فرجعوا، فقال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم الأخرم الأسدي وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أثر أبي قتادة المقداد الكندي، قال: فولى المشركون مدبرين، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم فآخذ عنان فرسه، قلت: يا أخرم، انذر القوم يعني احذرهم فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى تلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن فقتله، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة إلى فرس الأخرم، ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم، حتى ما أرى من غبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه [ ص: 185 ] ماء يقال له ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدو وراءهم، فعطفوا عنه واشتدوا في الثنية ثنية ذي بئر وغربت الشمس، فألحق رجلا فأرميه، قلت: خذها، وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع.

                                        قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة، قلت: نعم أي عدو نفسه، وكان الذي رميته بكرة فاتبعته بسهم آخر فعلق به سهمان، ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد، فإذا نبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وإذا بلال قد نحر جزورا مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله خلني فأنتخب من أصحابك مائة رجل، فآخذ على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخمر إلا قتلتهم.

                                        فقال: "أكنت فاعلا ذاك يا سلمة؟" قلت: نعم، والذي أكرم وجهك.

                                        فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النهار، ثم قال: "إنهم يقرون الآن بأرض غطفان" .

                                        فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا، فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة" فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الراجل والفارس جميعا ثم أردفني وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة، فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق فجعل ينادي هل من مسابق، ألا رجل يسابق المدينة فعل ذلك مرارا وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفي، قلت له: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟ قال: لا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                        قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي خلني فلأسابق الرجل، قال: "إن شئت" قلت: أذهب إليه فطفر عن راحلته وثنيت رجلي [ ص: 186 ] فطفرت عن الناقة، ثم ربطت عليه شرفا أو شرفين يعني استبقيت نفسي، ثم عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي، فقلت: سبقتك والله، قال: فضحك وقال: إن أظن حتى قدمنا المدينة.


                                        رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة.

                                        وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم، قال: حدثنا أحمد بن سلمة، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، فذكر بمعنى هذا الحديث، وقال: فسبقته إلى المدينة، قال: فلم نلبث إلا ثلاثا، حتى خرجنا إلى خيبر.

                                        رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم.

                                        وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن هذه الغزوة كانت عقيب غزوة بني لحيان، وأنهم فاتوا ببعض النعم حتى انفلتت المرأة التي أسروها على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركبتها وجاءت بها، وذلك فيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ في المغازي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيرهما قالوا: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني لحيان لم يقم بعد قدومه إلا ليالي قلائل، حتى أغارت بنو فزارة؛ عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في نفر من بني فزارة، على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بالغابة، وفيها رجل من بني [ ص: 187 ] غفار وامرأته، فقتلوا الغفاري، واحتملوا امرأته، وساقوا لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي عدا ومعه قوسه وهو يريد الغابة فلما أشرف على ثنية الوداع نظر إلى الخيل تجوس في الإبل فعلا في سلع ثم صرخ: واصباحاه، الفزع، الفزع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ في المدينة: "يا خيل الله اركبوا" فكان أول فارس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، ثم ترامت إليه الخيول حتى كانوا ثمانية فيهم سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخيل، ثم قال له امض في طلب القوم فإني بالأثر، فمضت الخيل حتى لحقوا بالقوم، فقتل أبو قتادة أخو بني سلمة حبيب بن قتيبة، وأدرك عكاشة بن محصن بن عمرو أوبارا وأباه وهما مترادفان على بعير فانتظمهما جميعا بالرمح فقتلهما، وقد كان سبق الخيل رجل من بني أسد يقال له الأخرم حتى أتى القوم من بين أيديهم، وكان على فرس جام، فقال: قفوا يا بني اللكيعة؛ حتى يلحق بكم أربابكم من المهاجرين والأنصار، فحمل عليه رجل فقتله فلم يقتل من المسلمين غيره.

                                        قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان على فرس لمحمود بن مسلمة يقال له ذو اللمة، فلما قتل الرجل جال الفرس فلم نقدر عليه حتى أتى أرية في بني عبد الأشهل، قال: وقد كان سلمة بن الأكوع قد عارضهم برميهم بنبله وهو يشتد على قدميه، وهو يقول: خذها، وأنا ابن الأكوع، اليوم يوم الرضع.

                                        فإذا أحملت عليه الخيل فر منها، وكان مثل السبع، ونضحها عنه بالنبل، ثم يعارضهم حتى تلاحق الناس، وقد فاتوا ببعض النعم، وتلاحق الناس، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجبل من ذي قرد، فقال له سلمة بن [ ص: 188 ] الأكوع: يا رسول الله خل سبيلي في مائة رجل آخذ بأعناقهم، فقال: "إنهم يغبقون الآن في غطفان" فأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أو يومين وقسم بين أصحابه لكل مائة جزور فأكلوها ذلك اليوم، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة راجعا.

                                        قال ابن إسحاق: حدثنا بعض أصحابنا، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: ما كان الأخرم إلا على فرس لعكاشة بن محصن يقال له الجناح، فقتل واستلبه يومئذ، وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر، وقالت: يا رسول الله إني قد نذرت لله نذرا أن أنحرها إن نجاني الله عليها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها، إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك" .

                                        قلت: وزعم عمران بن حصين أنها كانت العضباء.


                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية