الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 343 ] باب ذكر إسلام عمرو بن العاص وما ظهر له على لسان النجاشي وغيره من آثار صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في الرسالة

                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو عبد الله الأصبهاني، قال: حدثنا الحسن بن الجهم، قال: حدثنا الحسين بن الفرج، قال: حدثنا الواقدي، قال: أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانبا معاندا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت في نفسي: كم أوضع الله ليظهرن محمدا على قريش، فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس، يقول: أقللت من لقائهم، فلما حضر الحديبية، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح ورجعت قريش إلى مكة جعلت أقول: يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل، ولا الطائف، وما شيء خير من الخروج، وأنا بعد ناء عن الإسلام، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة فجمعت رجالا من قومي وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدموني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ فقالوا: ذو رأينا ومدرهنا في يمن نقيبة وبركة أمر [ ص: 344 ] ، قال: قلت: تعلمون أني والله لا أرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا.

                                        قالوا: وما هو؟ قال: نلحق بالنجاشي فنكون معه فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي فنكون تحت يد النجاشي أحب إلينا أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا، قالوا: هذا الرأي، قال: فاجمعوا ما تهدونه له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة ابنة أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي قد سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سررت قريشا، وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد صلى الله عليه وسلم، فدخلت على النجاشي فسجدت كما كنت أصنع فقال: مرحبا بصديقي، أهديت لي من بلادك شيئا؟ قلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا، ثم قربته إليه فأعجبه، ففرق منه أشياء بين بطارقته، وأقر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول عدو لنا، قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا، فأعطنيه فأقتله، فغضب فرفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض دخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه، قال: واستحيا وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى والذي كان يأتي عيسى عليهما السلام لتقتله قال عمرو: وغير [ ص: 345 ] الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله تعالى، يا عمرو فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى عليه السلام على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام، قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام ثم دعا بطست فغسل عني الدم، وكساني ثيابا، وكانت ثيابي قد امتلأت الدم، فألقيتها ثم خرجت على أصحابي، فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك، وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول أمره وقلت أعود إليه قالوا: الرأي ما رأيت.

                                        ففارقتهم وكأني أعمد لحاجة، فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينة قد شحنت تدفع فركبت معهم، ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة فابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة، حتى خرجت على مر الظهران، ثم مضيت حتى إذا كنت بالهداة فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلا وأحدهما داخل في خيمة، والآخر قائم يمسك الراحلتين، نظرت فإذا خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم قلت: أين تريد؟ قال: محمدا صلى الله عليه وسلم، دخل الناس في الإسلام، فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها، قلت: وأنا والله قد أردت محمدا صلى الله عليه وسلم، وأردت الإسلام فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل، ثم رافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقينا ببئر أبي عنبة يصيح: يا رباح يا رباح فتفاءلنا بقوله، وسرنا ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين، فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، وولى مدبرا إلى المسجد [ ص: 346 ] سريعا فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان ما ظننت وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابا، ونودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا، وتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر، فقال: "إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها" ، فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حربه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحال، وكان عمر على خالد كالعاتب.

                                        قال عبد الحميد بن جعفر: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أويس الثقفي، عن حبيب، عن عمرو نحو ذلك.

                                        قال عبد الحميد: فقلت ليزيد: فلم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد؟ قال: لا، إلا أنه قال: قبل الفتح.

                                        قلت: إن أبي أخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.


                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية