الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال أبو سهل بن زياد القطان: حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزاز، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير.

                                        (ح) وأخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثنا عبيد بن شريك وابن ملحان فرقهما.

                                        (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، قال: أخبرنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، الذي حدثني عروة، عن عائشة، وزعموا في رواية القطان، وإن كان بعضهم أوعى له، وزعموا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه [ ص: 65 ] .

                                        قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب، وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، وسرنا حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، واحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأقمت، وفي رواية القطان: فأتيت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، وفي رواية القطان: فيوجهون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش [ ص: 66 ] ، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فأناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا، موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت [ ص: 67 ] شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم؟" ثم ينصرف فذلك الذي يريبني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت يوما بعد ما نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناجع، وهو مبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى الليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت: وماذا قال - وفي رواية القطان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت: أوما علمت ما قال؟ قلت: لا والله.

                                        قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك.

                                        قالت: فازددت مرضا على مرضي، قالت: فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم، ثم قال: "كيف تيكم؟" فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا [ ص: 68 ] بنية هوني عليك، فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا أكثرن عليها.

                                        قالت: فقلت: سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت الليلة حتى أصبحت لا ترقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.

                                        قالت: ثم أصبحت أبكي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يأمرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم إلا خيرا.

                                        وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، النساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك.

                                        قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا، والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.

                                        فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين، من يعذرنا من رجل قد بلغنا أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيرا، ولقد [ ص: 69 ] ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي" , فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

                                        قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله.

                                        فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ [ ص: 70 ] فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت.

                                        قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي.

                                        قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي قال: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم جلس، قالت: فلم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني.

                                        قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه.

                                        قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                        قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                        قلت وأنا يومئذ حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف عليهما السلام قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .

                                        [ ص: 71 ] قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله عز وجل يبرئني ببراءتي، وفي رواية القطان: سيبرئني براءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر - وفي رواية القطان: أمر يتلى - ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.

                                        قالت: فوالله ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى نزل عليه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها: "يا عائشة أما والله لقد برأك الله" قالت: فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله.

                                        وأنزل الله عز وجل: إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم العشر الآيات كلها.

                                        فلما أنزل الله عز وجل هذا في براءتي، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة.

                                        فأنزل الله تعالى: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم قال أبو بكر: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي.

                                        فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا [ ص: 72 ] .

                                        قالت عائشة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش، عن أمري فقال: يا زينب ما علمت أو ما رأيت؟ قالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا.

                                        قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.


                                        لفظ حديث أبي عبد الله القطان رواه البخاري في الصحيح , عن يحيى بن عبد الله بن بكير، وأخرجه مسلم من حديث ابن المبارك، عن يونس بن يزيد.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية