الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                          معلومات الكتاب

                                                                          تهذيب الكمال في أسماء الرجال

                                                                          المزي - جمال الدين أبو الحجاج المزي

                                                                          صفحة جزء
                                                                          4911 - (بخ د ت س) : قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس، واسمه الحارث، وسمي مقاعسا لتقاعسه عن حلف بني سعد، وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي، أبو علي، ويقال : أبو قبيصة، ويقال : أبو طلحة المنقري .

                                                                          وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم سنة تسع، فأسلم.

                                                                          وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا سيد أهل الوبر ".

                                                                          وكان عاقلا، حليما، سمحا، جوادا.

                                                                          قيل للأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم؟ قال : من قيس بن عاصم.

                                                                          [ ص: 59 ] نزل البصرة، وكان له بها دار، وتوفي عن اثنين وثلاثين ذكرا من أولاده.

                                                                          روى عن : النبي صلى الله عليه وسلم (بخ د ت س) .

                                                                          روى عنه : الأحنف بن قيس ، والحسن البصري (بخ) ، وابنه حكيم بن قيس بن عاصم (بخ س) ، وابن ابنه خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم (د ت س) ، وقيل : عن خليفة بن حصين، عن أبيه، عن جده ، وأبو سوية سهيل بن خليفة بن عبدة الفقيمي ، وشعبة بن التوأم .

                                                                          أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري، وأبو إسحاق إبراهيم بن حمد بن كامل المقدسي، قالا : أخبرنا أبو البركات بن ملاعب، قال : أخبرنا القاضي أبو الفضل الأرموي، قال : أخبرنا جابر بن ياسين العطار، قال : أخبرنا أبو طاهر المخلص، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، قال : حدثنا عبد الله بن مطيع، قال : حدثنا هشيم بن بشير أبو معاوية، عن زياد بن أبي زياد، عن الحسن بن أبي الحسن، عن قيس بن عاصم ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه سمعته يقول : "هذا سيد أهل الوبر" فسلمت وجلست، فقلت : يا رسول الله المال الذي لا يكون علي فيه تبعة من ضيف ضافني، أو عيال إن كثروا، قال : " نعم، المال أربعون من الإبل، والكثير ستون، وويل لأصحاب المئين إلا [ ص: 60 ] من أعطى في رسلها، ونجدتها، وأفقر ظهرها، وأطرق فحلها، ونحر سمينها، وأطعم القانع والمعتر" قلت : يا رسول الله ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، إنه لا يحل بالوادي الذي أنا فيه من كثرة إبلي. قال : فكيف تصنع بالمنيحة؟ قلت : إني لأمنح في كل عام مائة.

                                                                          قال : فكيف تصنع بالعارية؟ قلت : تغدو الإبل ويغدو الناس، فمن أخذ برأس بعير ذهب به. قال : فكيف تصنع بالإفقار؟ قال : إني أفقر البكر الضرع والناب المدبر.

                                                                          قال : مالك أحب إليك أم مال مولاك؟ قلت : بل مالي، قال : فإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما بقي فلمولاك.

                                                                          قلت : لمولاي؟ قال : نعم. قلت : والله لئن بقيت لأدعن عدتها قليلة
                                                                          .

                                                                          قال الحسن : ففعل رحمه الله، فلما حضرته الوفاة دعا بنيه، فقال : يا بني خذوا عني، فلا أجد أنصح لكم مني : إذا أنا مت فسودوا أكابركم، ولا تسودوا أصاغركم فيستسفه الناس كباركم، وتهونوا عليهم، وعليكم باستصلاح المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء، وإن أحدا لم يسأل إلا ترك كسبه، فإذا أنا مت فكفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم ، وإياكم والنياحة علي؛ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ، وادفنوني في مكان لا [ ص: 61 ] يعلم به أحد، فإنه قد كانت بيننا وبين بكر بن وائل خماشات في الجاهلية، وأخاف أن يدخلوها عليكم في الإسلام، فيعيثوا عليكم دينكم .

                                                                          قال الحسن : رحمه الله، نصحا في الحياة ونصحا في الممات .

                                                                          هذا حديث حسن، وقع لنا بعلو من رواية هشيم، عن زياد الجصاص.

                                                                          وقد وقع لنا من وجه آخر عن زياد الجصاص بعلو أيضا.

                                                                          أخبرنا به أحمد بن أبي الخير، قال : أنبأنا أبو القاسم يحيى بن أسعد بن بوش الأزجي، قال : أخبرنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف، قال : أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال : أخبرنا أبو حفص بن الزيات، قال : أخبرنا أبو حفص عمر بن الحسن الحلبي القاضي، قال : حدثنا عامر بن سيار الحلبي، قال : حدثنا عبد الرحمن بن المختار بن معاوية الحمصي، وكان يقال : إنه من الأبدال، قال : حدثنا أبو محمد الجصاص، عن الحسن البصري، عن قيس بن عاصم التميمي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دنوت منه، سمعته يقول : "هذا سيد أهل الوبر" فسلمت وجلست، فقلت : يا رسول الله أخبرني عن المال الذي لا تبعة علي فيه من عيال إن كثروا أو ضيف ضافني : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم، المال الأربعون من الإبل، والكثير الستون، وويل لأصحاب [ ص: 62 ] المئين إلا من أعطى في رسلها ونجدتها، وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها، ونحر سمينها، فأطعم القانع والمعتر" قال : قلت : يا رسول الله ما أحسن هذه الأخلاق وأجملها! إنه لا يحل بالوادي الذي أنا فيه من كثرة إبلي.

                                                                          فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فكيف تصنع في العارية؟" قال : قلت : تغدو الإبل ويغدو الناس، فمن أخذ برأس بعير ذهب به.

                                                                          قال : فكيف تصنع في الإفقار؟ قال : قلت : إني لأفقر حتى الضرع البكر والناب المدبر.

                                                                          قال : فكيف تصنع في المنيحة؟ قال : قلت : والله إني لأمنح حتى المائة.

                                                                          قال : فمالك أحب إليك أم مال مواليك؟ قال : قلت : بل مالي.

                                                                          قال : ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما بقي فلمواليك.

                                                                          قال : قلت : ألموالي؟ قال : نعم.

                                                                          قال : قلت : والله إذا لأقلن عددها
                                                                          .

                                                                          قال الحسن : ففعل، فلما حضرته الوفاة قال : يا بني اسمعوا مني فإنكم لا تجدون أحدا أنصح لكم مني : إذا أنا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم، فيستجهل الناس أحلامكم وتهونوا عليهم، وعليكم باستصلاح المال؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة؛ فإنها آخر كسب المرء، لم يسأل أحد قط إلا ترك كسبه ، وإياكم والنياحة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ، وإذا أنا مت فادفنوني في ثيابي هذه التي كنت أصلي فيها وأذكر الله فيها، وادفنوني في موضع لا يعلم بي أحد؛ فإنه كانت بيننا وبين بكر بن وائل خماشات في الجاهلية، فأخاف أن يدخلوها عليكم في الإسلام، فيفتنوا عليكم دينكم .

                                                                          قال الحسن : كان ناصحا في حياته، ناصحا في مماته .

                                                                          [ ص: 63 ] وقال أبو عمر بن عبد البر : كان عاقلا حليما مشهورا بالحلم، قيل للأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم؟ قال : من قيس بن عاصم المنقري، رأيته يوما قاعدا بفناء داره، محتبيا بحمائل سيفه، يحدث قومه، حتى أتي برجل مكتوف، وآخر مقتول، فقيل له : هذا ابن أخيك قتل ابنك، قال : فوالله ما حل حبوته، ولا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه، فقال : يا ابن أخي بئس ما فعلت! أثمت ربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر : قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك، وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة.

                                                                          قال : وكان قيس بن عاصم قد حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويها، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وقال فيها أشعارا، منها قوله :


                                                                          رأيت الخمر جامحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما     فلا والله أشربها صحيحا
                                                                          ولا أشفى بها أبدا سقيما     ولا أعطى بها ثمنا حياتي
                                                                          ولا أدعو لها أبدا نديما     فإن الخمر تفضح شاربيها
                                                                          وتجشمهم بها الأمر العظيما

                                                                          [ ص: 64 ]

                                                                          قال :

                                                                          ومن جيد قوله :

                                                                          إني امرؤ لا يعتري خلقي     دنس يفنده ولا أفن
                                                                          من منقر في بيت مكرمة     والغصن ينبت حوله الغصن
                                                                          خطباء حين يقول قائلهم     بيض الوجوه أعفة لسن
                                                                          لا يفطنون لعار جارهم     وهم لحسن جواره فطن



                                                                          وقال النضر بن شميل : قال عبدة بن الطيب، يعني يرثي قيس بن عاصم :


                                                                          عليك سلام الله قيس بن عاصم     ورحمته ما شاء أن يترحما
                                                                          تحية من أوليته منك نعمة     إذا زار عن شحط بلادك سلما
                                                                          فما كان قيس هلكه هلك واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما



                                                                          روى له البخاري في "الأدب" وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

                                                                          التالي السابق


                                                                          الخدمات العلمية