الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب الاتقاء عن الشبهات.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( وشاركهم في الأموال والأولاد ) قيل: المشاركة في الأموال: اكتسابها من الحرام، وإنفاقها في المعاصي، وفي الأولاد: خبث المناكح، وقال الأزهري : معناه: ادعهم إلى تحريم ما أحل الله مثل البحيرة والسائبة وأولاد الزنا.

                                                                            2031 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم ، نا زكريا ، عن عامر ، قال: سمعت النعمان بن بشير ، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى المشبهات، استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في المشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه، [ ص: 13 ] ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم ، عن محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني ، عن أبيه ، عن زكريا .

                                                                            وقال عيسى عن زكريا : " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " .

                                                                            قوله: " استبرأ لعرضه " ، أي: احتاط لنفسه.

                                                                            قال الإمام: هذا الحديث أصل في الورع، وهو أن ما اشتبه على الرجل أمره، في التحليل والتحريم، ولا يعرف له أصل متقدم، فالورع أن يجتنبه ويتركه، فإنه إذا لم يجتنبه واستمر عليه واعتاده جره ذلك إلى الوقوع في الحرام، هذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه مر بتمرة ساقطة، فقال: " لولا أني أخشى أن تكون من صدقة لأكلتها " .

                                                                            قال حسان بن أبي سنان : ما رأيت شيئا أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. [ ص: 14 ] .

                                                                            ومن هذا لو وجد في بيته شيئا لا يدري هل هو له أو لغيره؟ فالورع أن يجتنبه، ولا يحرم عليه تناوله، لأنه في يده.

                                                                            ويدخل في هذا الباب معاملة من في ماله شبهة، أو خالطه ربا، فالاختيار أن يحترز عنها، ويتركها، ولا يحكم بفسادها ما لم يتيقن أن عينه حرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه من يهودي بشعير أخذه لقوت أهله، مع أنهم يربون في معاملاتهم له، ويستحلون أثمان الخمور.

                                                                            وقال عطاء : إذا دخلت السوق فاشتر، ولا تقل: من أين ذا، ومن أين ذا؟ فإن علمت حراما فاجتنبه.

                                                                            وقال سلمان : إذا كان لك صديق عامل أو تاجر، يقارف الربا، فدعاك إلى طعام فكل، أو أعطاك شيئا فاقبل، فإن المهنأ لك، وعليه الوزر. [ ص: 15 ] .

                                                                            وسئل الحسن عن جار عريف يهدي إلي، فأقبل؟ أو أولم فدعاني فآكل؟ قال: نعم لك مهنؤها، وعليه وزرها.

                                                                            ومثله عن سعيد بن جبير ، ومكحول ، والزهري ، قالوا: إذا كان المال فيه الحلال والحرام، فلا بأس أن يؤكل منه، إلا أن يعلم أن الذي يطعمه أو يهديه إليه حرام بعينه، فلا يحل.

                                                                            وروي عن علي ، أنه قال: لا تسأل السلطان، فإن أعطوك عن غير مسألة، فاقبل منهم، فإنهم يصيبون من الحلال أكثر مما يعطونك .

                                                                            وكان المختار يبعث إلى ابن عمر وابن عباس فيقبلانه.

                                                                            وبعث عبد الملك بن مروان إلى ابن عمر في الفتنة في قتال ابن الزبير مالا فأبى أن يقبله، فلما ذهبت الفتنة بعث إليه فقبله.

                                                                            وأمر الحجاج سعيد بن جبير يصلي بالناس في رمضان، فلما فرغ كساه برنسا من خز أسود فلبسه.

                                                                            وروي عن ابن سيرين ، أن ابن عمر كان يأخذ جوائز السلطان.

                                                                            وكان القاسم بن محمد لا يأخذها.

                                                                            وكان ابن سيرين لا يقبل.

                                                                            وكان سعيد بن المسيب لا يقبل جوائز السلطان، فقيل له في ذلك، فقال: قد ردها من هو خير مني على من هو خير منهم .

                                                                            قال الإمام: وجملة الشبه العارضة في الأمور قسمان: أحدهما هو الذي ذكرناه، وهو ما لا يعرف له أصل في تحليل ولا تحريم، فالورع تركه.

                                                                            والثاني: أن يكون له أصل في التحليل أو التحريم، فعليه التمسك بالأصل، ولا ينزل عنه إلا بيقين علم.

                                                                            وذلك مثل الرجل يتطهر للصلاة، ثم يشك في الحدث، فإنه يصلي ما لم يعلم الحدث يقينا.

                                                                            وكذلك الماء [ ص: 16 ] يجده في الفلاة يشك في نجاسته، فهو على أصل الطهارة، فعليه بالتمسك به حتى لا يقع في الوسواس، وكالرجل له زوجة وجارية، فيشك هل طلق المرأة؟ أو هل أعتق الجارية؟ فلا يحرم عليه الفرج إلا بيقين طلاق أو عتق، وإن كان أصله الحظر.

                                                                            مثل أن يشك في نكاح امرأة، أو شراء جارية، أو في لحم شاة أنها مذكاة أو ميتة، فلا يحل له شيء منها حتى يتيقن الملك، والذكاة.

                                                                            وكذلك لو اختلطت امرأته بنساء أجنبيات، أو مذكاة بميتات، يجب عليه أن يجتنب أكلها حتى يعرف الزوجة والمذكاة بعينها.

                                                                            وقوله: " من اتقى المشبهات استبرأ لعرضه ودينه " ففيه دليل على جواز الجرح والتعديل، فإن لم يتوق الشبه في كسبه ومعاشه، فقد عرض دينه وعرضه للطعن.

                                                                            قال الإمام: ونوع من الاشتباه أن يقع للرجل حادثة يشتبه عليه وجه الحكم فيها بين الحل والحرمة، فسبيله إن كان عالما أن يجتهد، وإن كان عاميا أن يسأل أهل العلم، ولا يجوز له سلوك سبيل الاستباحة من غير اجتهاد أو تقليد مجتهد، إن كان عاميا.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية