الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب اللقطة.

                                                                            2207 - أخبرنا أبو الحسن الشيرزي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني ، أنه قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها ، قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب "، قال: فضالة الإبل؟، قال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها " .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد بن عبد الله بن يوسف ، [ ص: 309 ] وأخرجه مسلم ، عن يحيى بن يحيى .

                                                                            كلاهما عن مالك .

                                                                            وقال إسماعيل بن جعفر عن ربيعة : " عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها، فأدها إليه" وقال سفيان عن ربيعة : " عرفها سنة، فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها، وإلا فاستنفق بها ".

                                                                            قال الإمام: اللقطة، اسم للمال الذي يوجد ضائعا، فيلتقط، حكي عن الخليل ، أنه قال: اللقطة، بتحريك القاف: الذي يلقط الشيء، واللقطة بسكون القاف: ما يلتقط، قال الأزهري : هذا الذي قاله قياس، لأن " فعلة " في أكثر كلامهم جاء فاعلا، و"فعلة" جاء مفعولا، غير أن كلام العرب جاء في اللقطة على غير قياس، وأجمع أهل اللغة ورواة الأخبار على أن اللقطة هي الشيء الملتقط، وكذلك قال الفراء ، وابن الأعرابي ، والأصمعي ، والالتقاط: وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ( يلتقطه بعض السيارة ) ، وقال عز وجل ( فالتقطه آل فرعون ) .

                                                                            والعفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة من جلد، أو خرقة، أو غير ذلك، ولهذا يسمى الجلد الذي تلبسه رأس القارورة العفاص، لأنه كالوعاء لها، وليس بالصمام، الذي يدخل في فم القارورة، فيكون سدادا لها.

                                                                            والوكاء: الخيط الذي يشد به العفاص. [ ص: 310 ] .

                                                                            وقوله في ضالة الإبل: "معها سقاؤها وحذاؤها" أراد بالسقاء أنها إذا وردت الماء، شربت منه ما يكون في ريها لظمئها، وهي من أطول البهائم ظمأ، لكثرة ما تحمل من الماء، وأراد بالحذاء: أخفافها، وأنها تقوى بها على السير، وقطع البلاد الشاسعة، وورد المياه النائية.

                                                                            قال الإمام رحمه الله: وفقه هذا الحديث أن من وجد لقطة يعرف عفاصها ووكاءها وعددها، ثم يعرفها سنة في المجامع، وأبواب المساجد، ويكون أكثر تعريفه حيث وجدها، فإن ظهر مالكها، دفعها إليه، وإن لم يظهر فله أن يتملكها، فيأكلها، ويستمتع بها، سواء كان فقيرا أو غنيا، ثم إذا ظهر مالكها، دفع قيمتها إليه، وهو قول بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يروى ذلك ، عن عمر بن الخطاب وعائشة ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                            وذهب جماعة إلى أنه بعد ما عرفها سنة يتصدق بها، ولم يكن له أن ينتفع بها إذا كان غنيا، يروى ذلك عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وهو قول سفيان الثوري ، وعبد الله بن المبارك ، وأصحاب الرأي ، والأول ظاهر الحديث، وقد روي عن سلمة بن كهيل ، عن سويد بن غفلة ، قال: لقيت أبي بن كعب ، قال: " وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: عرفها حولا . فعرفتها، ثم أتيته، فقال: عرفها حولا. فعرفتها، ثم أتيته، فقلت: لم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها. فاستمتعت. فلقيته بعد بمكة ، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا " . [ ص: 311 ] .

                                                                            فهذا يدل على أن الغني يستمتع باللقطة، فإن أبي بن كعب كان من مياسير الأنصار.

                                                                            وروي أن عليا وجد دينارا، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها، ولو كانت اللقطة كالصدقة، لم تحل لعلي بن أبي طالب ، لأنه كان ممن لا تحل له الصدقة.

                                                                            ومذهب عامة الفقهاء، أن تعريف اللقطة سنة واحدة، كما جاء في خبر زيد بن خالد ، والثلاث في حديث أبي بن كعب شك لم يصر إليه أحد من أهل العلم.

                                                                            وظاهر الحديث يدل على أن قليل اللقطة وكثيرها سواء في وجوب تعريفها سنة، وإليه ذهب بعض أهل العلم، وذهب قوم إلى أن القليل لا يجب تعريفه، ثم منهم من قال: ما دون عشرة دراهم قليل، وقال بعضهم: إنما يعرف ما فوق الدينار، لما روي عن علي ، رضي الله عنه، أنه وجد دينارا، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "هذا رزق الله، فاشتر به دقيقا ولحما" فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي ، وفاطمة، ثم جاء صاحب [ ص: 312 ] الدينار ينشد الدينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي أد الدينار " ، ففيه دليل على أن القليل لا يعرف.

                                                                            قال الإمام: وقد روي عن عطاء بن يسار ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " عرفه ".

                                                                            وقال بعضهم: إن كان دون دينار يعرف جمعة، وهو قول إسحاق ، وقال قوم: ينتفع بالقليل التافه من غير تعريف، كالنعل، والسوط، والجراب، ونحوها ولا يتموله، لما روي عن جابر ، قال: " رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل، وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به " .

                                                                            واختلفوا في تأويل قوله: "اعرف عفاصها ووكاءها" وأنه لو جاء رجل، وادعى اللقطة، وعرف عفاصها ووكاءها ووصفها، هل يجب الدفع إليه أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أنه يجب الدفع إليه من غير بينة [ ص: 313 ] وهو المقصود من معرفة العفاص والوكاء، وهو قول مالك ، وأحمد ، وقد روي في حديث أبي بن كعب من طريق حماد ، عن سلمة بن كهيل ، عن سويد بن غفلة ، عن أبي بن كعب ، "فإن جاء صاحبها، فعرف عددها ووكاءها، فادفعها إليه" .

                                                                            وقال الشافعي : إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق، فله أن يعطيه، ولا أجبره عليه إلا ببينة، لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها، وبه قال أصحاب الرأي، وقالوا: "فإن جاء صاحبها، فعرف عددها ووكاءها" لفظ تفرد بروايته حماد من بين سائر الرواة، فعلى هذا تأويل قوله: "اعرف عفاصها ووكاءها" لئلا يختلط بماله اختلاطا، لا يمكنه التمييز إذا جاء مالكها، وليتميز عن تركته إذا مات، فلا يقتسمها ورثته في جملة تركته، والدليل عليه ما.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية