الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب بيان مال الربا وحكمه.

                                                                            2056 - أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، نا أبو العباس الأصم . ح

                                                                            وأنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، ومحمد بن أحمد العارف ، قالا: أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب ، عن أيوب بن أبي تميمة ، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، ورجل آخر ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدا بيد كيف شئتم " .

                                                                            ونقص أحدهما الملح والتمر، وزاد أحدهما: " من زاد، أو ازداد، فقد أربى" . [ ص: 57 ] .

                                                                            وروي هذا الحديث من طرق: عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عتيك ، عن جابر .

                                                                            قال الإمام: هذا الحديث صحيح.

                                                                            أخرجه مسلم من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث ، عن عبادة بن الصامت .

                                                                            والربا في اللغة: الزيادة، قال الله سبحانه وتعالى: ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس ) أي: ليكثر ( فلا يربو عند الله ) أي: لا ينمى، وقوله عز وجل ( أخذة رابية ) أي: زائدة على الأخذات، والمحرم في الشريعة زيادة على صفة مخصوصة.

                                                                            واتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث عليها، وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها، إنما ثبت لأوصاف فيها، ويتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف.

                                                                            ثم اختلفوا في تلك الأوصاف، فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها واحد، وهو النفع.

                                                                            وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الربا ثبت في الدراهم، والدنانير بوصف، وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر.

                                                                            واختلفوا في ذلك الوصف، فقال قوم: ثبت في الدراهم، والدنانير، بوصف النقدية، وبه قال مالك ، والشافعي .

                                                                            وقال قوم: ثبت بعلة الوزن، وهو قول أصحاب الرأي، حتى قالوا: يثبت الربا في جميع ما يباع وزنا في العادة، مثل: الحديد، والنحاس، والقطن، ونحوها.

                                                                            والدليل على أن الوزن لا يجوز أن يكون علة، اتفاق أهل العلم على أنه يجوز إسلام الدراهم والدنانير في غيرهما من الموزونات، ولو كان الوزن علة، لكان لا يجوز، لأن كل مالين اجتمعا في علة الربا لا يجوز إسلام [ ص: 58 ] أحدهما في الآخر، كما لا يجوز إسلام الدراهم في الدنانير، وإسلام الحنطة في الشعير، لاتفاقهما في علة الربا.

                                                                            يخرج منه أنه لو باع رطل حديد برطلين، أو رطل نحاس، أو صفر، بأرطال من جنسه يجوز عند الشافعي نقدا ونسيئة، ويجوز عند مالك يدا بيد ولا يجوز نسيئة، ولا يجوز عند أصحاب الرأي لا نقدا ولا نسيئة.

                                                                            قال شعبة : سألت الحكم عن الصفر بالحديد نسيئة؟ فقال: لا بأس به.

                                                                            وسألت عنه حمادا ، فكرهه.

                                                                            وأما الأشياء الأربعة المطعومة، فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بوصف الكيل، وهو قول أصحاب الرأي حتى قالوا: يثبت الربا في جميع ما يباع كيلا في العادة، مثل الجص والنورة ونحوهما.

                                                                            وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن، فكل مطعوم هو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون، وهو قول سعيد بن المسيب قال: لا ربا إلا في ذهب، أو ورق، أو ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب، وقاله الشافعي قديما، وقول مالك قريب منه.

                                                                            وقال في الجديد: يثبت فيها الربا بوصف الطعم، وأثبت في جميع الأشياء المطعومة، مثل الثمار، والفواكه، والبقول، والأدوية، ونحوها، سواء كانت مكيلة أو موزونة أو لم تكن، لما روي عن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الطعام بالطعام مثلا بمثل " .

                                                                            فالنبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم باسم الطعام، [ ص: 59 ] والطعام اسم مشتق من الطعم، وكل حكم علق باسم مشتق من معنى يكون ذلك المعنى علة فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) وقال: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) والزاني والسارق، اسمان مشتقان من الزنا والسرقة، فلما علق وجوب الجلد والقطع باسم الزاني والسارق، كان الزنا والسرقة علة في وجوبهما، ولأن الشرع لما ضم الملح، الذي هو أدنى ما يطعم، إلى البر، الذي هو أعلى المطعومات، دل ذلك على أن ما بين النوعين من المطعومات لاحق بهما.

                                                                            أما حكم الربا: هو أنه إذا باع مال الربا بجنسه، فلا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع، فإن كان موزونا مثل الدراهم والدنانير، يشترط المساواة في الوزن، والتفاوت في الكيل لا يمنع العقد.

                                                                            وإن كان مكيلا مثل الحنطة والشعير ونحوهما، فتشترط المساواة في الكيل، حتى لو باع أحد النقدين بجنسه كيلا، أو شيئا من الموزونات المطعومة بجنسه كيلا، أو باع الحنطة بالحنطة، أو شيئا من المكيلات المطعومة بجنسه وزنا، لا يصح العقد كما لو باع مجازفة.

                                                                            وكما تشترط فيه المساواة في معيار الشرع يشترط التقابض في مجلس البيع، حتى لو تفرقا قبل التقابض، يفسد العقد.

                                                                            وإذا باع مال الربا بغير جنسه، نظر إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا، مثل أن باع حنطة أو شعيرا بأحد النقدين، فلا تشترط فيه المساواة ولا التقابض في المجلس، كما لو باع بغير مال الربا، وإن باعه بما يوافقه في الوصف مثل أن باع الدراهم بالدنانير، أو باع الحنطة بالشعير، أو مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه، فيجوز متفاضلا وجزافا، ولكن يشترط التقابض في المجلس.

                                                                            قوله في الحديث: " إلا سواء بسواء" فيه إيجاب المماثلة، وتحريم الفضل. [ ص: 60 ] .

                                                                            وقوله: " عينا بعين" فيه تحريم النساء.

                                                                            وقوله: "يدا بيد" فيه إيجاب التقابض في المجلس.

                                                                            وقوله في آخر الحديث: "يدا بيد كيف شئتم" فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض.

                                                                            وقوله: "من زاد أو ازداد، فقد أربى" يعني من أعطى الزيادة أو أخذها، كما روي أنه: " لعن آكل الربا، وموكله " .

                                                                            وذهب عامة أهل العلم إلى أن بيع الحنطة بالشعير يجوز متفاضلا، إلا ما حكي عن مالك أنه قال: لا يجوز إلا متساويين في الكيل كبيع الحنطة بالحنطة.

                                                                            ويروى مثله عن سليمان بن يسار أن سعد بن أبي وقاص فني علف حماره، فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك طعاما، فابتع به شعيرا ولا تأخذ إلا مثله.

                                                                            والحديث حجة عليه، حيث قال: " ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، يدا بيد كيف شئتم " .

                                                                            وذهب أصحاب الرأي إلى أن التقابض في المجلس في بيع مال الربا بجنسه ليس بشرط إلا في الصرف، وهو بيع أحد النقدين بالآخر أو بجنسه.

                                                                            والحديث حجة عليهم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا البر بالبر " - إلى أن قال - : " إلا يدا بيد" ، وقال في اختلاف الجنس: " ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، يدا بيد " ، ثم قوله: " يدا بيد " محمول على إيجاب التقابض في المجلس في الصرف من هذه العقود، فكذلك في غير الصرف منها.

                                                                            ويقال: كان في الابتداء حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بيع الدراهم بالدراهم، وبيع الدنانير بالدنانير، متفاضلا جائزا يدا بيد، ثم صار منسوخا إلى إيجاب المماثلة، وقد بقي على المذهب الأول بعض الصحابة ممن لم يبلغهم النسخ، كان منهم عبد الله بن عباس، وكان يقول: أخبرني [ ص: 61 ] أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الربا في النسيئة " .

                                                                            وروي أن ابن عباس رجع عن ذلك حين حدثه أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل " .

                                                                            وتأول الشافعي حديث أسامة " إنما الربا في النسيئة " ، فقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الربا في صنفين مختلفين، ذهب بورق، أو تمر بحنطة، فقال: " الربا في النسيئة " ، فحفظه، فأدى قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤد المسألة، والله أعلم.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية