الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            2559 - أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، نا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه ، نا الحسن بن علي بن زكريا بن علي الخزاز ، نا إسماعيل بن عباد المقرئ ، نا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، [ ص: 235 ] عن عبد الله بن مسعود ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى منزل أم سلمة ، فجاء علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أم سلمة هذا والله قاتل القاسطين، والناكثين والمارقين من بعدي " .

                                                                            قال الإمام: إذا بغت طائفة من المسلمين، وخرجت على إمام العدل بتأويل محتمل، ونصبت إماما، وامتنعت عن طاعة إمام العدل، يبعث الإمام إليهم، فيسألهم: ما تنقمون؟ فإن ذكروا مظلمة، أزالها عنهم، وإن لم يذكروا مظلمة بينة، يقول لهم: عودوا إلى طاعتي لتكون كلمتكم، وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة، فإن امتنعوا يدعوهم إلى المناظرة، وإن امتنعوا عن المناظرة، أو ناظروا وظهرت الحجة عليهم، فأصروا على بغيهم، يقاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته، قال الله سبحانه وتعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) .

                                                                            وسئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: "من الشرك فروا " ، قيل: منافقون هم؟ قال: " إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا " ، قيل: فما هم؟ قال: " إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم" .

                                                                            قال الإمام: وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في القتال من نفس أو مال، فلا ضمان فيه على قول الأكثرين، وهو قول الشافعي [ ص: 236 ] في الجديد، ومذهب أصحاب الرأي.

                                                                            قال الشافعي : أمر الله سبحانه وتعالى أن يصلح بينهم بالعدل، ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، فأشبه هذا أن تكون التباعات في الدماء والجراح، وما تلف من الأموال ساقطة بينهم، كما قال ابن شهاب : كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلف فيها أموال، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم، وجرى الحكم عليهم، فما علمت اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه.

                                                                            وقال في القديم: ما أتلفت الفئة الباغية على العادلة من نفس أو مال، ضمنوه، فأما ما أتلفت إحداهما على الأخرى في غير حال القتال، فيجب ضمانه، مالا كان أو نفسا بالاتفاق.

                                                                            ومن ولى من أهل البغي ظهره في الحرب هاربا، لا يتبع، وكذلك لو أثخن واحد، أو أسر، فلا يقتل، نادى منادي علي يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، يريد: لا يجهز عليه، أي لا يقتل، وأتي علي يوم صفين بأسير، فقال له علي : " لا أقتلك صبرا، إني أخاف رب العالمين " ، فخلى سبيله .

                                                                            قال حماد ، عن إبراهيم : لولا أن عليا قاتل أهل القبلة لم يدر أحد كيف يقاتلهم.

                                                                            وإذا استولى أهل البغي على بلد، فأخذوا صدقات أهلها لا يثنى عليهم، وينفذ قضاء قاضيهم، وتقبل شهادة عدولهم، وإنما تثبت هذه الأحكام في حقهم باجتماع ثلاث شرائط: أحدها: أن يكون لهم قوة ومنعة.

                                                                            والثاني: أن يكون لهم تأويل محتمل.

                                                                            والثالث: أن ينصبوا إماما بينهم، فلو فقد شرط من هذه الشرائط، [ ص: 237 ] فحكمهم حكم قطاع الطريق في المؤاخذة بضمان ما أتلفوا، ورد قضائهم، وجرح شاهدهم.

                                                                            قال الشافعي : ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج ، وتجنبوا الجماعات، وأكفروهم، لم يحل بذلك قتالهم، بلغنا أن عليا رضي الله عنه، سمع رجلا يقول: لا حكم إلا لله في ناحية المسجد، فقال علي : " كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال " .

                                                                            قال الشافعي : ولو قتلوا واليهم أو غيره قبل أن ينصبوا إماما، ويظهروا حكما مخالفا لحكم الإمام، كان عليهم في ذلك القصاص.

                                                                            قد أسلموا وأطاعوا واليا عليهم من قبل علي رضي الله عنه، ثم قتلوه، فأرسل إليهم علي : " أن ادفعوا إلينا قاتله نقتله به " ، قالوا: كلنا قتله، قال: " فاستسلموا نحكم عليكم "، قالوا: لا، فسار فقاتلهم، فأصاب أكثرهم .

                                                                            قال الإمام: ومنع النبي صلى الله عليه وسلم عمر من قتل ذي الخويصرة ، لأنه لم يجتمع فيه ما يبيح قتله.

                                                                            وفيه دليل على أن من توجه عليه التعزير لحق الله سبحانه وتعالى جاز للإمام تركه، والإعراض عنه.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية