الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            2585 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، نا سعيد بن عفير ، حدثني الليث ، حدثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، وأبي سلمة ، أن أبا هريرة ، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس، وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إني زنيت.

                                                                            فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول الله إني زنيت .

                                                                            فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: " أبك جنون؟ " ، قال: لا يا رسول الله.

                                                                            فقال: " أحصنت؟" ، قال: نعم يا رسول الله.

                                                                            قال: "اذهبوا فارجموه "
                                                                            .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم ، عن عبد الملك بن شعيب بن الليث ، عن أبيه، عن جده، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، وأخرجه محمد ، عن محمود بن غيلان ، حدثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، [ ص: 290 ] عن أبي سلمة ، عن جابر ، بهذا، وقال: فأمر به، فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة، فر، فأدرك، فرجم حتى مات، " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : خيرا.

                                                                            وصلى عليه ".

                                                                            قوله: "فتنحى لشق وجهه" ، أي: قصد الجهة التي إليها وجهه، ونحا نحوها، من قولك: نحوت الشيء أنحوه.

                                                                            قوله: "أذلقته الحجارة" ، أي: بلغت منه الجهد حتى قلق، وقيل: مسته الحجارة بذلقها، وذلق كل شيء: حده.

                                                                            قال الإمام: يحتج بهذا الحديث من يشترط التكرار في الإقرار بالزنا حتى يقام عليه الحد، ويحتج أبو حنيفة بمجيئه من الجوانب الأربع على أنه يشترط أن يقر أربع مرات في أربعة مجالس، ومن لم يشترط التكرار، قال: إنما رده مرة بعد أخرى لشبهة داخلته في أمره، ولذلك سأل فقال: " أبه جنون؟" ، فأخبر أن ليس به جنون، فقال: "أشرب خمرا؟" ، فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر، فقال: "أزنيت؟" ، قال: نعم.

                                                                            فأمر به فرجم.

                                                                            فرده مرة بعد أخرى للكشف عن حاله، لا أن التكرار فيه شرط، يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المرأة الغامدية التي جاءت بعده وأقرت بالزنا، فقالت: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا.

                                                                            فثبت أن الترديد لم يكن شرطا في الحكم ، وإنما كان لزوال الشبهة، ولم يزل ذلك في حق ماعز إلا في المرة الرابعة. [ ص: 291 ] .

                                                                            وفي قوله عليه السلام بعد ما هرب: "هلا تركتموه" دليل على أن من أقر على نفسه بالزنا، ثم رجع، فقال: ما زنيت، أو كذبت، أو رجعت، سقط الحد عنه، وإذا رجع في خلال إقامة الحد عليه، سقط عنه ما بقي، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، والزهري ، وحماد بن أبي سليمان ، وإليه ذهب مالك ، وسفيان الثوري ، وأصحاب الرأي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وكذلك السارق، وشارب الخمر إذا رجع عن إقراره، تسقط عنه العقوبة.

                                                                            وذهب جماعة إلى أن الحد لا يسقط عنه بالرجوع عن الإقرار، روي ذلك عن جابر ، وهو قول الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب ابن أبي ليلى ، وأبو ثور ، قالوا: ولو سقط عنه القتل لصار مقتولا خطأ، ولوجبت الدية على عواقل القاتلين.

                                                                            قال الإمام: إنما لم تجب الدية؛ لأن ماعزا لم يكن رجع صريحا، لكنه هرب، وبالهرب لا يسقط الحد، وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم : "هلا تركتموه" أي: لننظر في أمره، ونستثبت المعنى الذي هرب من أجله، أنه هرب راجعا عما أقر على نفسه، أم فرارا من ألم الحجارة؟ يدل عليه أنه روي في بعض الروايات: "هلا تركتموه لعله يتوب، فيتوب الله عليه" .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية