الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            2445 - أخبرنا أبو طاهر محمد بن بويه الزراد ، أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، نا عيسى بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن زحر ، عن أبي سعيد الرعيني ، عن عبد الله بن مالك ، عن عقبة بن عامر الجهني ، أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت حافية غير مختمرة، فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مر أختك، فلتركب ولتختمر، ولتصم ثلاثة أيام " .

                                                                            قلت: نذرها ترك الاختمار معصية؛ لأن ستر الرأس واجب على [ ص: 28 ] المرأة، فلم ينعقد فيه نذرها، وكذلك الحفاء، ولو نذر الرجل أن يحج حافيا، فلا يلزم الحفاء أيضا لما فيه من إتعاب البدن، ولو نذر أن يحج ماشيا يلزمه المشي إلا أن يعجز، فيركب من حيث عجز، ويلزمه المشي من دويرة أهله، وقيل: من الميقات.

                                                                            وإذا ركب لعجز، هل يلزمه شيء أم لا؟ اختلف أهل العلم فيه، فذهب أكثرهم إلى أن عليه دم شاة، وهو قول مالك ، وأظهر قولي الشافعي ، وأصحهما، وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إلا على وجه الاحتياط لحديث أنس أنه أمره بالركوب مطلقا، ولم يأمره بفدية، وحيث أمر فاستحباب، كما روي: " ولتهد بدنة " ، ولا تجب البدنة لزوما.

                                                                            وقال علي رضي الله عنه: عليه بدنة.

                                                                            قوله: "ولتصم ثلاثة أيام " أراد: عند العجز عن الهدي، وقيل: يتخير بين الهدي والصوم كما في جزاء الصيد، إن شاء فداه بمثله، وإن شاء قوم المثل دراهم، والدراهم طعاما، وتصدق بالطعام، وإن شاء صام عن كل مد يوما.

                                                                            ولو حج راكبا لغير عجز، فقد قيل: عليه القضاء، ثم في القضاء يمشي بقدر ما ركب، ويركب بقدر ما مشى، وقيل وهو الأصح: لا قضاء عليه، كما لو ركب للعجز.

                                                                            وقال إبراهيم ، وحماد : إذا عجز ركب، ثم يحج من قابل، فيركب ما مشى، ويمشي ما ركب.

                                                                            ولو نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام يلزمه أن يأتيه ماشيا حاجا، أو معتمرا كما لو صرح بالحج، أو بالعمرة، وعليه المشي في الحج حتى تحل له النساء عقدا ووطأ وهو بعد التحللين، وفي العمرة حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة ، ويحلق.

                                                                            وكذلك لو نذر إتيان بيت الله الحرام، فعليه الحج، أو العمرة، غير أنه لا يلزمه المشي، وكذلك لو نذر أن يأتي موضعا من الحرم سماه، وفيه قول آخر أنه لا يلزمه الحج والعمرة إذا نذر المشي إليه وإتيانه إذا لم [ ص: 29 ] يصرح بواحد منهما، بل إذا أتاه فحج أو اعتمر، أو اعتكف في المسجد الحرام ، أو صلى فيه ركعتين، خرج عن نذره، ولو نذر إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو المسجد الأقصى يلزمه على أصح القولين كما لو نذر إتيان المسجد الحرام ، ثم إذا أتاه يعتكف فيه، أو يصلي، أو إذا أتى مسجد المدينة يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قول آخر، أنه لا يلزمه الإتيان كما لو نذر أن يأتي مسجدا آخر سوى هذه المساجد الثلاثة، لا يلزمه الإتيان، لا خلاف فيه، بخلاف المسجد الحرام ، لأنه مخصوص من بين سائر المساجد بوجوب المصير إليه بأصل الشرع للحج، أو العمرة، والأول أصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذه المساجد الثلاثة من بين سائر المساجد في قوله: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا " .

                                                                            فعلى هذا لو نذر أن يصلي في مسجد من هذه المساجد الثلاثة لا يخرج عن النذر إذا صلى في [ ص: 30 ] غيرها من المساجد، ولو نذر أن يصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن نذره إذا صلى في المسجد الحرام ، ولا يخرج إذا صلى في المسجد الأقصى لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .

                                                                            ولو نذر أن يصلي في المسجد الحرام ، فلا يخرج عن نذره بالصلاة في غيره.

                                                                            ولو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى ، فصلى في المسجد الحرام ، أو في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، يخرج عن النذر، والدليل عليه ما روي عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، أن رجلا، قال: يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: " صل ههنا " ، ثم عاد عليه، فقال: "صل ههنا" ، ثم عاد عليه، فقال: " شأنك إذا" ، ولو نذر المشي إلى بيت الله، أو إلى البيت، ونوى مسجدا من هذه المساجد، فهو كما لو صرح به، وإن لم ينو، فلا شيء عليه، ولو نذر أن يتصدق على فقراء بلد عينه يجب أن يتصدق عليهم، ولا يجوز وضعه في غير فقراء ذلك البلد عند الشافعي ، لما روي أن رجلا قال: يا رسول الله، إني نذرت إن ولد لي ذكر أن أنحر على رأس بوانة عدة من الغنم، قال: " هل بها من هذه الأوثان؟ " قال: لا.

                                                                            قال: " فأوف بما نذرت به لله "
                                                                            ، [ ص: 31 ] وبوانة أسفل مكة دون يلملم ، يقال: كان السائل كردم بن سفيان الثقفي .

                                                                            وذهب قوم إلى أنه يجوز أن يتصدق على أهل غير ذلك المكان، وروى مالك عن عمرو بن عبيد الأنصاري ، أنه سأل سعيد بن المسيب عن بدنة جعلتها امرأة عليها، فقال سعيد : البدن من الإبل، ومحل البدن البيت العتيق، إلا أن تكون سمت مكانا من الأرض، فلتنحرها حيث سمت، فإن لم تجد بدنة، فبقرة، فإن لم تجد بقرة، فعشرا من الغنم، ثم جئت سالم بن عبد الله ، فسألته فقال مثل ما قال سعيد ، غير أنه قال: فإن لم تجد بقرة، فسبعا من الغنم، ثم جئت خارجة بن زيد ، فقال مثل ما قال سالم ، ثم جئت عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ، فقال مثل ما قال سالم .

                                                                            قال مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : من نذر بدنة، فإنه يقلدها نعلين، ويشعرها، ثم يسوقها حتى ينحرها عند البيت العتيق، أو بمنى يوم النحر، ليس لها محل دون ذلك، ومن نذر جزورا من الإبل والبقر، فلينحرها حيث شاء . [ ص: 32 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية