الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب من مات في الحد.

                                                                            2608 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، نا عبد الله بن عبد الوهاب ، نا خالد بن الحارث ، نا سفيان ، نا أبو حصين ، قال: سمعت عمير بن سعيد النخعي ، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: " ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت، فأجد في نفسي إلا [ ص: 339 ] صاحب الخمر، فإنه لو مات، وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه " .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم ، عن محمد بن منهال ، عن يزيد بن زريع ، عن سفيان الثوري .

                                                                            قال الإمام: اتفق أهل العلم على أن الإمام إذا أقام حدا على إنسان، فمات فيه، أنه لا ضمان عليه، واختلفوا فيمن مات في حد الخمر، فذهب الشافعي في أحد قوليه، إلى أنه لا يضمن، كمن مات في سائر الحدود.

                                                                            والقول الثاني: يضمن الدية، لأنه ضرب بالاجتهاد.

                                                                            وهو قول علي رضي الله عنه، فعلى هذا تكون الدية على عاقلة الإمام، أم في بيت المال؟ قولان، أصحهما: على عاقلته كما في خطإ غير الإمام.

                                                                            والثاني: في بيت المال؛ لأن خطأ الإمام يكثر، ففي إيجاب الدية على عاقلته إجحاف بهم، هذا إذا ضرب في الخمر بالسياط، أما إذا ضرب بالنعال وأطراف الثياب قدر أربعين، فمات، فلا ضمان فيه، لأنه لم يخرج عن النص إلى الاجتهاد.

                                                                            ولو عزر الإمام رجلا، فمات منه، يضمن بالدية عند الشافعي على عاقلته على أحد القولين، وفي بيت المال على القول الآخر، وعند أبي حنيفة لا يضمن، وأصله: أن ترك التعزير جائز عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة لا يجوز كالحدود، روي " أن عمر أرسل إلى امرأة في شيء بلغه منها ففزعت، فأجهضت ذا بطنها، فاستشار، فقال عبد الرحمن بن [ ص: 340 ] عوف : إنك مؤدب.

                                                                            فقال علي : إن اجتهد، فقد أخطأ، وإن لم يجتهد، فقد غش، عليك الدية.

                                                                            فقال عمر : عزمت عليك لا تجلس حتى تضربها على قومك "، وأراد: على قومي، أضاف إليه تشريفا.

                                                                            وروي أن رجلين تشاتما عند أبي بكر ، فلم يقل لهما شيئا، وتشاتما عند عمر ، فأدبهما.

                                                                            ويجوز للزوج أن يؤدب زوجته بالضرب ضربا غير مبرح، وكذلك المعلم يضرب الصبي، فإذا لم يتعد في الضرب، وحصل منه التلف، ضمنت عاقلته الدية، وأما المكتري إذا ضرب الدابة المكراة، أو الراعي ضربها، ولم يخرج عن العادة في الضرب، لم يضمن؛ لأن الدابة لا تنزجر بغير الضرب، والآدمي قد يتأدب، وينزجر بالقول العنيف، فالخروج منه إلى حد الضرب كان بشرط السلامة، وضرب الرائض يكون أشد من ضرب الراعي، والمكتري، فإن لم يخرج عن عادة [ ص: 341 ] الرواض في الضرب، فهلكت الدابة، لم يضمن، وإن خرج عن العادة ضمنها في ماله.

                                                                            ولو ضرب الإمام رجلا ظلما فهلك فيه، فعليه القود بدليل ما روي عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا، فلاجه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: القود يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكم كذا وكذا " ، فلم يرضوا، فقال: " لكم كذا، وكذا " ، فرضوا .

                                                                            وروي عن أبي بكر ، وعمر أنهما أقادا من العمال، وممن رأى عليهم القود: الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                            ولو أخطأ الإمام، والجلاد عالم بخطئه، فالضمان على الجلاد، لا على الإمام.

                                                                            ولو قطع سلعة برجل، أو قطع يده بسبب الأكلة بإذنه، فمات منه، لا شيء على القاطع، وإن قطع بغير إذنه، فإن كان المقطوع منه عاقلا بالغا، يجب القود، وإن كان مجنونا، فإن قطعه غير الولي، يجب القود، وإن قطعه وليه أو السلطان تجب الدية، وفي وجوب القود قولان.

                                                                            وإذا أخطأ الطبيب في المعالجة، فحصل منه التلف، تجب الدية على عاقلته.

                                                                            قال الإمام: وكذلك من تطبب بغير علم.

                                                                            روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: " من تطبب، ولم يعلم منه طب، فهو ضامن " . [ ص: 342 ] .

                                                                            ولو ختن السلطان إنسانا بالغا دون إذنه، فمات، لم يضمن، لأنه واجب، إلا أن يفعل في حر وبرد شديد، فيضمن.

                                                                            ولو قطع يد إنسان، فاستوفى القصاص، فمات المقتص منه بالسراية، لا شيء على المستوفي، وعند أبي حنيفة عليه كمال الدية، وهو قول حماد ، وقال أبو يوسف : عليه نصف الدية، وهو قول إبراهيم ، والحكم ، واتفقوا على أن السارق إذا قطعت يده، فمات، لا ضمان على أحد.

                                                                            ولو شهد شاهدان على إنسان بقصاص طرفا، أو نفسا، فاستوفى، أو بحد فأقيم، فمات فيه، ثم رجع الشاهدان، فإن قالا: تعمدنا، فعليهما القصاص، وإن قالا: أخطأنا، فالدية، وقال بعض أهل العلم: لا قود على الشهود إذا رجعوا، بل عليهم الدية، وهو قول أصحاب الرأي.

                                                                            ولو شهدا بطلاق، فقضي به، أو بعتق، ثم رجعا يجب عليهما مهر المثل للزوج، وقيمة العبد للمالك بالاتفاق، ولا يرد الطلاق ولا العتق.

                                                                            ولو شهدا بمال، فاستوفي، ثم رجعا، فاختلفوا في وجوب الضمان عليهم، فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان على الشهود، وهو قول الحكم ، وأظهر قولي الشافعي ؛ لأن التفويت لم يتحقق بخلاف الطلاق والعتق، بدليل أن بتكذيب المرأة والعبد لا يرد الطلاق والعتق، وقال قوم: يضمن الشهود القيمة كما في العتق، وهو قول أصحاب الرأي، وبه قال حماد . [ ص: 343 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية