الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            3260 - أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، " أن النبي صلى الله عليه وسلم طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئا، وما صنعه، وأنه دعا ربه، ثم قال: أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر: عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: [ ص: 186 ] في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، وذروان بئر في بني زريق، قالت عائشة: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين، قالت: فقلت له يا رسول الله، هلا أخرجته؟ قال: أما أنا، فقد شفاني الله، فكرهت أن أثير علي الناس منه شرا ".

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن عبيد بن إسماعيل، وأخرجه مسلم، عن أبي كريب، كلاهما عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، وروي عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، نحوه، وزاد فيه: " إن الملكين قالا له: انطلق إلى البئر، فاستخرج منها سحرا، قال: فانطلق، فإذا بئر ماؤها كثير الخنافس، فاستخرج السحر، فبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

                                                                            وقولها: "طب" أي: سحر، ويقال: رجل مطبوب، أي: مسحور، كني بالطب الذي هو للعلاج عن السحر، كما كني بالسليم عن اللديغ تطيرا من اللدغ إلى السلامة، وكني عن الفلاة، [ ص: 187 ] وهي المهلكة بالمفازة، تطيرا من الهلاك إلى الفوز والنجاة، وقيل: هو من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، وللسحر: طب، وهو من أعظم الأدواء.

                                                                            والمشاطة: الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط.

                                                                            ويروى في مشط ومشاقة من مشاقة الكتان والجف: وعاء الطلع، ويروى: وجب طلعة ذكر.

                                                                            قال أبو عمرو: يقال لوعاء الطلع: جف وجب معا، يقال: أراد بالجب داخلها، كما يقال لداخلة الركية من أولها إلى أسفلها جب.

                                                                            ويروى: "تحت راعوفة في بئر ذروان"، والراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت ناتئة يجلس عليها من ينقي البئر، وكذلك الراعوثة.

                                                                            وقوله: "كأن نخلها رؤوس الشياطين" أي: أنها مستدقة كرؤوس الحيات، والحية يقال لها: الشيطان.

                                                                            وقيل: أراد أنها وحشة المنظر، قبيحة الأشكال، كأنها رؤوس الشياطين المشوهة الخلق، الهائلة للناظر.

                                                                            قال الخطابي: قد أنكر قوم من أصحاب الطبائع السحر، وأبطلوا حقيقته، ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أن يكون له تأثير في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يؤمن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمر الشرع، فيكون فيه ضلال الأمة، والجواب أن السحر ثابت، وحقيقته موجودة، اتفق أكثر الأمم من العرب، والفرس، والهند، وبعض الروم على إثباته، وهؤلاء أفضل سكان أهل الأرض، وأكثرهم علما وحكمة، وقد قال الله تعالى: ( يعلمون الناس السحر ) ، وأمر بالاستعاذة منه، فقال عز وجل: ( ومن شر النفاثات في العقد ) ، وورد في ذلك عن [ ص: 188 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار لا ينكرها إلا من أنكر العيان والضرورة، وفرع الفقهاء فيما يلزم الساحر من العقوبة، وما لا أصل له لا يبلغ هذا المبلغ في الشهرة والاستفاضة، فنفي السحر جهل، والرد على من نفاه لغو وفضل.

                                                                            فأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بإثباته، فليس كذلك، لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم وهم بشر يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل، وتأثير السم، وعوارض الأسقام فيهم، وقد قتل زكريا وابنه، وسم نبينا صلى الله عليه وسلم بخيبر.

                                                                            فأما أمر الدين، فإنهم معصومون فيما بعثهم الله جل ذكره، وأرصدهم له، وهو جل ذكره حافظ لدينه، وحارس لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل، وإنما كان خيل إليه أنه يفعل الشيء من أمر النساء خصوصا، وهذا من جملة ما تضمنه قوله: ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، فلا ضرر إذا يلحقه فيما لحقه من السحر على نبوته وشريعته، والحمد لله على ذلك، والسحر من عمل الشيطان يفعله في الإنسان بنفثه، ونفخه، وهمزه، ووسوسته، ويتلقاه الساحر بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فإذا تلقاه عنه، استعمله في غيره بالقول والنفث في العقد، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس، ولذلك صار الإنسان إذا سمع ما كره يحمى ويغضب، وربما حم منه، وقد مات قوم بكلام سمعوه، وبقول امتعضوا منه، ولولا طول الكتاب لذكرناهم.

                                                                            هذا كلام الخطابي في كتابه.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية