الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب [ ص: 173 ] آخر من يخرج من النار.

                                                                            3346 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل البخاري ، نا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد ، وعطاء بن يزيد ، أن أبا هريرة ، أخبرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                            ح، قال البخاري : وحدثني محمود ، حدثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة ، قال: قال أناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال: " فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هؤلاء الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا [ ص: 174 ] مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه.

                                                                            فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم.

                                                                            فيقولون: أنت ربنا.

                                                                            فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ " قالوا: نعم يا رسول الله.

                                                                            قال: " فإنها مثل شوك السعدان غير أنها لا يعلم قدر عظمتها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل، ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرجه ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء، يقال له: ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، فيقول: يا رب، قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار. [ ص: 175 ] .

                                                                            فلا يزال يدعو الله، فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

                                                                            فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره.

                                                                            فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب، قربني إلى باب الجنة.

                                                                            فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك يابن آدم ما أغدرك! فلا يزال يدعو، فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره.

                                                                            فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره.

                                                                            فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: رب أدخلني الجنة.

                                                                            فيقول: أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك يابن آدم ، ما أغدرك! فيقول: يا رب، لا تجعلني أشقى خلقك.

                                                                            فلا يزال يدعو حتى يضحك، فإذا ضحك منه، أذن له بالدخول فيها، فإذا دخل فيها، قيل له: تمن من كذا، فيتمنى، ثم يقال له: تمن من كذا، فيتمنى، حتى تنقطع به الأماني.

                                                                            فيقول الله: هذا لك ومثله معه "
                                                                            .

                                                                            قال أبو هريرة : وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا.

                                                                            قال: وأبو سعيد الخدري جالس مع أبي هريرة ، لا يغير عليه شيئا من حديثه، [ ص: 176 ] حتى انتهى إلى قوله: "هذا لك ومثله معه" ، قال أبو سعيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: " هذا لك، وعشرة أمثاله " .

                                                                            قال أبو هريرة : حفظت "مثله معه " .

                                                                            وأخبرنا أبو سعيد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد البزاز ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، أنا عبد الرزاق أنا معمر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة ، مثله.

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن أبي اليمان .

                                                                            قوله: " فمنهم الموبق بعمله "، أي: المحبوس، يقال: أوبقه: إذا حبسه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ( أو يوبقهن بما كسبوا ) ، أو يحبس السفن فلا تجري عقوبة لأهلها.

                                                                            والإيباق: الإهلاك أيضا، يقال: وبق يبق، ووبق يوبق: إذا هلك، وقوله سبحانه وتعالى: ( وجعلنا بينهم موبقا ) ، أي: جعلنا بينهم ما يوبقهم، أي: يهلكهم.

                                                                            وقوله: " ومنهم المخردل "، قيل: هو المصروع، وقيل: هو المقطع، أي: تقطعه كلاليب الصراط حتى تهوي به إلى النار، يقال: خردلت اللحم بالدال والذال، أي: قطعته وفرقته. [ ص: 177 ] .

                                                                            وقوله: " امتحشوا " ، أي: احترقوا، وقيل: المحش تناول من اللهب يحرق اللحم، ويبدي العظم.

                                                                            وقوله: " فينبتون نبات الحبة "، الحبة بكسر الحاء وتشديد الباء: اسم جامع لحبوب البقول التي تنتثر إذا هاجت، ثم إذا مطرت من قابل تنبت، وقال الكسائي : هي حب الرياحين الواحدة حبة، فأما الحنطة ونحوها، فهو الحب لا غير، والحبة من العنب تسمى حبة بالفتح، وحب الحبة يسمى حبة بضم الحاء وتخفيف الباء.

                                                                            وقوله: " في حميل السيل " ، هو ما حمله السيل فعيل بمعنى مفعول، كما يقال للمقتول: قتيل، قال أبو سعيد الضرير : حميل السيل: ما جاء به من طين أو غثاء، فإذا اتفق فيه الحبة، واستقرت على شط مجرى السيل، فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتا، وإنما أخبر بسرعة نباتهم.

                                                                            وقوله: " قشبني ريحها " ، أي: سمني وصار ريحها كالسم في أنفي، والقشب: خلط السم بالطعام، والقشب: اسم للسم وكل مسموم قشيب، ويقال: قشبه الدخان: إذا امتلأ خياشيمه من الدخان.

                                                                            وقوله: " وأحرقني ذكاؤها " ، فأصل الذكاء: بلوغ كل شيء منتهاه، وذكيت النار: إذا أتممت إشعالها.

                                                                            قوله: " فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون " ، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: هذا يحتاج إلى تأويل، وليس ذلك من أجل أنا ننكر رؤية الله تعالى، بل نثبتها، ولا من أجل أنا ندفع ما جاء في الكتاب، وفي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من ذكر المجيء والإتيان غير أنا [ ص: 178 ] لا نكيف ذلك، ولا نجعله حركة وانتقالا كمجيء الأشخاص وإتيانها، إلى غير ذلك من نعوت الحدث، وتعالى الله علوا كبيرا، ويجب أن تعلم أن الرؤية التي هي ثواب الأولياء في الجنة غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم يوم القيامة، وإنما تعريضهم لهذه الرؤية امتحان من الله سبحانه وتعالى لهم، يقع به التمييز بين من عبد الله سبحانه، وبين من عبد الشمس والقمر والطواغيت، فيتبع كل فريق معبوده، وليس ينكر أن يكون الامتحان إذ ذاك قائما، وحكمه على الخلق جاريا حتى يفرغ من الحساب، ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقت الحقائق، واستقرت أمور العباد قرارها، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى: ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) ، فامتحنوا هنالك بالسجود، ويشبه أن يكون، والله أعلم، إنما حجبهم عن تحقق الرؤية في الكرة الأولى، حتى قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا.

                                                                            من أجل من معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤية، وهم عن ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم، ارتفع الحجب، فقالوا عند ما رأوه: أنت ربنا.

                                                                            وذكر من الكلام غير هذا، وقال: الصورة في هذه القصة بمعنى الصفة. [ ص: 179 ] .

                                                                            قلت: والواجب فيه وفي أمثاله الإيمان والتسليم، والله أعلم.

                                                                            وروي عن إسحاق بن عيسى الطباع ، قال: أتينا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون برجل كان ينكر حديث يوم القيامة، وأن الله يأتيهم في صورته، فقال له: يا بني، ما تنكر من هذا؟ قال: إن الله أجل وأعظم من أن يرى في هذه الصفة.

                                                                            فقال: يا أحمق، إن الله ليس تتغير عظمته، ولكن عيناك يغيرهما حتى تراه كيف شاء.

                                                                            فقال الرجل: أتوب إلى الله.

                                                                            ورجع عما كان عليه.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية