الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            2738 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله [ ص: 131 ] النعيمي، أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، نا إسحاق بن محمد الفروي، نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: بينما أنا جالس في أهلي حين متع النهار، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر بن الخطاب، فإذا هو جالس على رمال سرير، ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أدم، فسلمت عليه، ثم جلست، فقال: يا مال، إنه قد قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ، فأقبضه، فأقسمه بينهم.

                                                                            قلت: يا أمير المؤمنين، لو أمرت به غيري؟ قال: اقبضه أيها المرء.

                                                                            فبينما أنا جالس عنده، أتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص يستأذنون؟ قال: نعم، فأذن لهم، فدخلوا، فسلموا وجلسوا، ثم جلس يرفأ يسيرا، ثم قال: هل لك في علي، وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما، فدخلا، فسلما، فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني، وبين هذا، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير، [ ص: 132 ] فقال الرهط عثمان، وأصحابه: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر، قال عمر رضي الله عنه: تيدكم، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء، والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"؟ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.

                                                                            قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي، وعباس، فقال: أنشدكما الله، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر: إن الله قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعط أحدا غيره، ثم قرأ: ( وما أفاء الله على رسوله منهم ) إلى قوله ( قدير ) ، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموه، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي، فيجعله مجعل مال الله، فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال [ ص: 133 ] لعلي، وعباس: أنشدكما هل تعلمان ذلك؟ قال عمر: ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه لصادق فيها، بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فكنت أنا ولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلماني، وكلمتكما واحدة، وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا، يريد عليا، يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما، قلت: إن شئتما، دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله، وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم بالله، هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، ثم أقبل على علي، وعباس، فقال: أنشدكما بالله، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم، قال: فتلمسان مني قضاء غير [ ص: 134 ] ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها غير ذلك، فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلي، فأنا أكفيكماها.


                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم، عن عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، عن جويرية، عن مالك.

                                                                            قال أبو داود السجستاني حين روى هذا الحديث في سننه : إنما سألاه أن يصيرها بينهما نصفين ، فقال عمر : لا أوقع عليها اسم القسم .

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي : ما أحسن ما قال أبو داود ، والذي يدل من نفس الحديث على ما قال أبو داود قول عمر رضي الله عنه : إنما جئتماني وكليمتكما واحدة ، وأمركما واحد ، فهذا يبين أنهما إنما اختصما إليه في رأي حدث لهما في أسباب الولاية والحفظ ، فرأى كل واحد منهما التفرد ، ولا يجوز عليهما أن يكونا طالباه بأن يجعله ميراثا بينهما ، ويرده ملكا بعد أن كانا سلماه في أيام أبي بكر ، وكيف [ ص: 135 ] يجوز ذلك وعمر يناشدهما الله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " ، فيعترفان به ، والقوم حضور يشهدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكل هذه الأمور تؤكد ما قاله أبو داود رحمه الله .

                                                                            قال الإمام : ويدل عليه عمرو بن دينار ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس ، في هذا الحديث أن عمر قال : أتريدان أن أدفع إلى كل واحد منكما نصفا؟ قال الإمام : وإنما منعهما عمر القسمة احتياطا لأمر الصدقة ، لأن القسمة من سبيل الأموال المملوكة ، القابلة لأنواع التصرف ، فلو قسمها بينهم ، لم يأمن إذا اختلفت الأيدي فيها أن يتملكها بعد علي ، والعباس من ليس له بصيرتهما في العلم ، ولا تقيتهما في الدين ، فكان الأولى تركها جملة على حالتها .

                                                                            وقد روي أن عليا رضي الله عنه غلب عليها العباس ، فكان يليها أيام حياته ، ثم كانت بعده في يد الحسن بن علي ، ثم في يد الحسين بن علي ، ثم في يد علي بن الحسين ، والحسن بن الحسن ، كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن الحسن .

                                                                            قوله في الحديث : حين متع النهار ، أي : ارتفع ، والماتع : [ ص: 136 ] الطويل ، يقال : أمتع الله بك ، أي : أطال مدة الانتفاع بك ، وقوله سبحانه وتعالى : ( أفرأيت إن متعناهم سنين ) ، أي : عمرناهم سنين .

                                                                            وقوله : هو جالس على رمال سرير ، أي : ما يرمل وينسج به من شريط ونحوه .

                                                                            وقوله : يا مال ، يريد يا مالك ، فرخم ، كقولهم لحارث : يا حار ، وقرئ : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ) .

                                                                            وقوله : تيدكم ، يريد : على رسلكم ، وأصله من التؤدة ، يقول : الزموا تؤدتكم ، وكان أصلها : تأد ، تأدا ، فكأنه قال : تأدكم فأبدل الياء من الهمزة .

                                                                            وفي قول عمر : إن الله قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعط أحدا ، دليل على أن أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في حياته ، واختلفوا في مصرفها من بعده ، فذهب بعض أهل العلم إلى أنها للأئمة بعده ، وكذلك سهمه من الخمس ، لما روي عن أبي الطفيل ، قال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ، فهي للذي يقوم من بعده " .

                                                                            وللشافعي فيها قولان ، أحدهما : أنه للمقاتلة يقسم كلها فيهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يأخذها لما له من الرعب ، والهيبة في قلب العدو ، والمقاتلة [ ص: 137 ] هم القائمون مقامه في إرهاب العدو وإخافتهم .

                                                                            والقول الثاني : أنها لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة أولا يعطون منها كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذها لفضيلته التي خصه الله تعالى بها ، وليس لأحد من الأئمة تلك الفضيلة ، كما كان له الصفي من الغنيمة وهو أن يصطفي من رأس الغنيمة قبل أن تخمس شيئا : عبدا أو جارية ، أو فرسا ، أو سيفا ، أو غيرها ، وليس ذلك لأحد من الأئمة .

                                                                            قالت عائشة : كانت صفية من الصفي .

                                                                            ومن خصائصه أنه كان يسهم له من الغنيمة كسهم رجل ممن شهد الوقعة ، سواء حضرها أو غاب عنها ، وقال مالك : أربعة أخماس الفيء للمصالح ، وكذلك كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ملك .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية