الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            [ ص: 214 ] باب البعير إذا ند.

                                                                            2782 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، نا موسى بن إسماعيل، نا أبو عوانة، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، وأصبنا إبلا، وغنما، وكان النبي في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، "فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأمر بالقدور، فأكفئت، ثم قسم، فعدل عشرة من الغنم ببعير"، فند منها بعير، وكان في القوم خيل بسيرة، فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما ند عليكم، فاصنعوا به هكذا"، قال: وقال جدي: إنا لنرجو، أو نخاف أن نلقى العدو غدا وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل ليس السن، والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة ". [ ص: 215 ] .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم، عن القاسم بن زكريا، عن حسين بن علي، عن زائدة، عن سعيد بن مسروق.

                                                                            قوله : " أوابد فالأوابد " ، هي التي قد توحشت ونفرت ، يقال : أبد الرجل يأبد أبودا : إذا توحش وتخلى ، وتأبدت الديار : إذا توحشت ، وهذه آبدة من الأوابد ، أي : نادرة في بابها لا نظير لها وجاء فلان بآبدة ، أي : بخصلة يستوحش منها ، والمدى : جمع مدية وهي السكين .

                                                                            وقوله : " ما أنهر الدم " ، أي : أساله وأجراه ، ومنه سمي النهر ، لأنه يجري فيه الماء .

                                                                            وفي الحديث من الفقه جواز قسمة الحيوان ، ومعادلة العدد بالواحد عند تفاوت القيمة .

                                                                            وأما أمره بإكفاء القدور ، فقد قال قوم : إن القوم أصابوا غنيمة فذبح بعضهم منها شيئا من النعم بغير إذن الباقين لا يؤكل ، وقال طاوس وعكرمة في ذبيحة السارق : اطرحوه .

                                                                            قال الإمام : وعند [ ص: 216 ] الأكثرين : اللحم حلال مملوك للشركاء ، ولعله أمر به زجرا وردعا ، لأنهم ذبحوها قبل القسمة على سبيل النهب ، فلم يطب لهم .

                                                                            وفيه دليل على أن الحيوان الإنسي إذا توحش ونفر ، فلم يقدر على قطع مذبحه ، يصير جميع بدنه في حكم المذبح ، كالصيد الذي لا يقدر عليه ، وكذلك لو وقع بعير في بئر منكوسا ، فلم يقدر على قطع حلقه فطعن في موضع من بدنه فمات ، كان حلالا ، روي عن أبي العشراء ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ ، قال : " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك " ، وأراد به في غير المقدور عليه .

                                                                            قال أبو عيسى : ولا يعرف لأبي العشراء ، عن أبيه غير هذا الحديث ، واختلفوا في اسم أبي العشراء ، قيل : اسمه أسامة بن مالك بن قهطم الدارمي ، ويقال يسار بن برز ، وقيل : اسمه عطارد .

                                                                            وذهب ربيعة ومالك إلى أن الإنسي إذا توحش ، فلا يحل إلا بقطع مذبحه ، ولا يتغير حكمه بالتوحش ، وأكثر العلماء على خلافه .

                                                                            وعلى عكسه لو استؤنس الصيد ، وصار مقدورا عليه لا يحل إلا بقطع مذبحه باتفاق أهل العلم حتى لو رمى إلى صيد ، فأزال امتناعه بأن كانت دابة ، فأعجزها عن العدو ، أو طائرا ، فأعجزه عن الطيران والعدو ، ملكه [ ص: 217 ] بهذا الإزمان ، ثم إن صيرته الجراحة إلى حالة المذبوح ، فمات منها ، فهو حلال ، وإن لم يصيره إلى حالة المذبوح ، فلا يحل إلا بقطع المذبح إذا وصل إليه وهو حي ، ولو سار إليه ، فقبل أن وصل إليه ، مات من جرحه ، أو وصل إليه حيا وتهيأ لذبحه ، ففارقه الروح قبل أن ذبحه ، فهو حلال .

                                                                            ولو توانى في ذبحه ، أو اشتغل بطلب آلة الذبح ، أو بتحديد السكين ، أو تعلق سكينه بغمد ، فمات ، فحرام .

                                                                            وفي الحديث بيان أن كل محدد يجرح يحصل به الذبح ، سواء كان حديدا أو قصبا ، أو خشبا ، أو زجاجا ، أو حجرا سوى السن والظفر .

                                                                            وروي عن كعب بن مالك ، أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية بشاة موتا ، فكسرت حجرا ، فذبحتها به ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، " فأمره بأكلها " .

                                                                            وقوله : " ليس السن والظفر " ، بمعنى الاستثناء ، وإعرابه النصب .

                                                                            قال رحمه الله : أما السن والظفر ، فلا يقع بها الذكاة ، وفي تعليله صلى الله عليه وسلم السن بأنه عظم دليل على أن القوم كان متقررا عندهم أن الذكاة لا تحصل بشيء من العظام ، وهو قول أكثر أهل العلم ، سواء كان العظم والسن بائنين عن الإنسان ، أو غير بائنين ، وإليه ذهب الشافعي وذهب بعض أصحابه إلى أن الذبح يحصل بعظم ما يؤكل لحمه ، وعامة أصحابه ، على خلافه .

                                                                            وقال مالك : إن ذكي بالعظم ، فمر مرا ، أجزأه ، [ ص: 218 ] والنهي عنه لما أن الغالب من أمر العظم أنه لا يقطع المذابح ، ولا يمور فيها مور الحديد .

                                                                            وذهب أصحاب الرأي إلى أن السن والعظم إن كانا بائنين عن الإنسان تحصل بهما الذكاة ، وإن كانا غير منزوعين ، عن مكانهما ، فلا تحصل ، لأن ذلك بمنزلة ما يعالجه الإنسان بيده وأنامله ، فأشبه الخنق ، ثم هذا الاختلاف بين العلماء فيما إذا ذبح مقدورا عليه بعظم ، أو رمى عظما إلى صيد ، فأما إذا جرح الكلب الصيد بسنه أو ظفره ، فقتله ، فحلال بالاتفاق .

                                                                            وذكر الخطابي أنه إذا اتخذ الرامي نصلا من عظم فأصاب به صيدا جاز ، قال الإمام : والقياس أن لا يجوز كما لو ذبح المقدور عليه بالعظم بخلاف سن الجارحة ومخلبها ، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه .

                                                                            وقوله : " أما الظفر فمدى الحبشة " ، معناه : أن الحبشة يدمون مذابح الشاة بأظفارهم ، ويجرحونها ، فيحلونها محل المدي التي يستعملها المسلمون ، ولا خلاف أن المدى التي يقطع بها يحصل بها الذكاة وإن كان الكفار يستعملونها .

                                                                            قال الحسن ، وإبراهيم : لا بأس بذبيحة الأقلف ، وهو قول أهل العلم وذبيحة الأمة حلال ، وكذا الصبي ، وفي المجنون اختلاف .

                                                                            قال الحكم : إني لأذبح وإني لجنب . [ ص: 219 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية