الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب أخذ الجعل.

                                                                            2671 - أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرزي، أنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي، أنا أبو بكر محمد بن سهل بن عبد الله القهستاني المعروف بأبي تراب، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا محمد بن رمح المهاجر بن المحرز بن سالم التجيبي المصري، نا الليث بن سعد، عن حيوة بن شريح، عن ابن شفي، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قفلة كغزوة"، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للغازي أجره، وللجاعل أجره، وأجر الغازي".

                                                                            قوله : " قفلة كغزوة " ، قال أبو سليمان الخطابي : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون أراد به القفول عن الغزو ، والرجوع إلى الوطن ، يقول : إن أجر المجاهد في انصرافه إلى أهله كأجره في إقباله [ ص: 15 ] إلى الجهاد ، وذلك لأن تجهيز الغازي يضر بأهله ، وفي قفوله إليهم إزالة الضرر عنهم ، واستجمام للنفس ، واستعداد بالقوة للعود .

                                                                            والوجه الآخر : أن يكون أراد بذلك التعقيب ، وهو رجوعه ثانيا في الوجه الذي جاء منه منصرفا ، وإن لم يلق عدوا ، وقد يفعل الجيش ذلك لأحد أمرين : أحدهما : أن العدو إذا رأوهم قد انصرفوا عن ساحتهم أمنوهم ، فخرجوا من مكامنهم ، فإذا قفل الجيش إلى دار العدو ، نالوا الفرصة منهم ، فأغاروا عليهم .

                                                                            والآخر : أنهم إذا انصرفوا من مغزاهم ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم ، فيوقعوا بهم وهم غارون ، فربما استظهر الجيش ، أو بعضهم بالرجوع على أدراجهم ينقضون الطريق ، فإن كان من العدو طلب ، كانوا مستعدين للقائهم .

                                                                            قال الإمام : وقد صح عن أنس ، عن أبي طلحة : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، " كان إذا ظهر على قوم ، أقام بعرصتهم ثلاثا " .

                                                                            قوله : " للجاعل أجره وأجر الغازي " ، فيه ترغيب للجاعل ورخصة للمجعول له .

                                                                            واختلف أهل العلم في جواز أخذ الجعل على الجهاد ، فرخص فيه الزهري ، ومالك ، وأصحاب الرأي ، ولم يجوزه قوم ، روي عن ابن عمر ، أنه قال : أرى الغازي يبيع غزوه ، وأرى هذا يفر من غزوه ، وكرهه علقمة ، وقال الشافعي : لا يجوز أن يغزو بجعل ، فإن أخذه ، فعليه رده ، وقال النخعي : لا بأس بالإعطاء ، وأكره الأخذ . [ ص: 16 ] .

                                                                            واختلف أهل العلم في الأجير للعمل ، وحفظ الدواب يحضر الوقعة هل يسهم له؟ ، فقد قيل : لا يسهم له ، قاتل أو لم يقاتل ، إنما له أجرة عمله ، وهو قول الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحد أقوال الشافعي .

                                                                            وقيل : يرضخ له ، وقيل : يسهم له إذا قاتل ، فإن لم يقاتل ، فلا سهم له ، وهو قول الثوري ، وأحد أقوال الشافعي ، وقال مالك ، وأحمد : يسهم له ، وإن لم يقاتل إذا كان مع الناس عند القتال ، وهو قول الحسن ، وابن سيرين ، وقيل : يخير بين الأجرة والسهم ، فإن ترك أجرة عمله ، فله السهم ، وإن طلب الأجرة ، فلا سهم له .

                                                                            وقد روي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني ، عن عبد الله بن الديلمي ، أن يعلى بن منية ، قال : أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خدم ، فالتمست أجيرا يكفيني ، وأجري له سهمي ، فوجدت رجلا ، فلما دنا الرحيل ، أتاني ، فقال : ما أدري ما السهمان فسم لي شيئا ، فسميت له ثلاثة دنانير ، فلما حضرت غنيمة ، أردت أن أجري له سهمه ، فذكرت الدنانير ، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له أمره ، فقال : " ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى " .

                                                                            فأما إذا استؤجر الرجل للجهاد ، فالإجارة باطلة ، وإذا حضر الوقعة ، فلا سهم له ، لأنه يعمل لغيره ، وقيل : يستحق السهم ، لأن جهاده يقع عن نفسه . [ ص: 17 ] .

                                                                            ولو أسلم كافر ، فالتحق بصف المسلمين ، يستحق السهم ، وإذا أفلت أسير من أيدي الكفار ، فحضر القتال ، فإن قاتل ، يستحق السهم ، وإن لم يقاتل ، فقد قيل : يسهم له ، وقيل : لا يسهم .

                                                                            ومن حضر دار الحرب تاجرا ، فحضر الوقعة ، فإن لم يقاتل فلا سهم له ، وإن قاتل ، فقد قيل : يسهم له ، وقيل : لا يسهم له ، أما إذا حضر مجاهدا ، وحمل معه مالا يتجر فيه ، فيستحق السهم وإن لم يقاتل ، ويجوز استئجار الذمي على الجهاد ، لأنه لا يفترض عليه بحضوره الوقعة بخلاف المسلم .

                                                                            ولو غزا رجل على فرس استأجره ، يجوز ويستحق السهم ، ويكون للمستأجر ، وعليه للآجر الكراء .

                                                                            وروي عن رويفع بن ثابت أنه قال : إن كان أحدنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ، ولنا النصف ، وإن كان أحدنا ليطير له النصل ، والريش ، وللآخر القدح .

                                                                            أراد بالنضو : البعير المهزول .

                                                                            ففيه دليل على أنه لو اكترى فرسا ، أو بعيرا للغزو على أن للمكري سهم المكتري من الغنيمة ، أو نصف ما يغنم ، أو ثلثه على ما يتشارطان أنه يجوز ، وإليه ذهب الأوزاعي ، وأحمد .

                                                                            وأخذ عطية بن قيس فرسا على النصف ، فبلغ سهم الفرس أربع مائة دينار ، فأخذ مائتين ، وأعطى صاحبه مائتين .

                                                                            ولم يجوزه أكثر الفقهاء لجهالة العوض ، وأوجبوا على المكتري إذا استعمله أجر المثل .

                                                                            وقوله : " وإن كان أحدنا ليطير له النصل" ، أي : يصيبه في القسمة ، يقال : طار لفلان النصف ، ولفلان الثلث : إذا وقع له ذلك [ ص: 18 ] في القسمة .

                                                                            والقدح : خشب السهم قبل أن يراش ، ويركب فيه النصل .

                                                                            وفيه دليل على أن الشيء المشترك بين الجماعة إذا احتمل القسمة ، كان له ذلك ما دام ينتفع بما يخصه منه ، وإن قل ، وذلك لأن القدح قد ينتفع به عريا من الريش والنصل ، وكذلك ينتفع بالريش والنصل ، وإن لم يكونا مركبين في قدح ، فأما ما لا ينتفع بقسمته أحد من الشركاء كاللؤلؤة ، والشيء الذي إذا فرق بين أجزائه ، بطلت منفعته ، فلا تجب المقاسمة فيه ، لأنه إضاعة المال ، بل يبيعونه ، ويقتسمون ثمنه .

                                                                            قال الإمام : أما تجهيز الغزاة وإعانتهم بالمال ، فجائز ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من جهز غازيا في سبيل الله ، فقد غزا " .

                                                                            وقال مجاهد : قلت لابن عمر : أريد الغزو ، قال : إني أحب أن أعينك بطائفة من مالي ، قلت : وسع الله علي ، قال : إن غناك لك ، وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية