الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر المال يغلب عليه العدو، ويستنقذه المسلمون، ثم يدركه صاحبه قبل القسم وبعده

                                                                                                                                                                              اختلف أهل العلم في مال المسلم يغلب عليه العدو، ثم يأخذه المسلمون منهم، فيأتي صاحبه قبل القسم أو بعده، فقالت طائفة: صاحبه أحق به ما لم يقسم، فإذا أدركه، وقد قسم، فهو أحق به بالثمن; كذلك قال النخعي، والثوري، والأوزاعي، والنعمان، غير أن النعمان فرق بين المال يغلب عليه العدو، وبين العبد يأبق، فيدخل بلاد العدو، فيأخذه المشركون، فقال في العبد يأسره العدو، كما قال هؤلاء في المال، وقال في العبد يأبق إلى العدو: إذا أدركه سيده قبل القسم، وبعده يأخذه مولاه بغير قيمة; لأن المشركين لم يحرزوه .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: يأخذه صاحبه ما لم يقسم، فإذا قسم فلا حق له، روي هذا القول عن عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                              6183 - حدثنا أبو سعد، حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبي، عن عبد الله، عن سعيد، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، أن عمر بن الخطاب، قال: فيما أحرزه المشركون، ثم أصابه المسلمون، فعرفه صاحبه، فإن أدركه قبل أن يقسم فهو له، وإذا جرت فيه السهام، فلا شيء له. قال قتادة: وقال علي بن أبي طالب: هو للمسلمين، اقتسم، أو لم يقتسم . [ ص: 196 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وهذا قول سلمان بن ربيعة، وعطاء بن أبي رباح، وقال ابن وهب : أخبرني رجال من أهل العلم، عن أبي بكر الصديق، وعبادة بن الصامت، ويحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم كانوا يقولون مثل ذلك، فأما ما وقعت فيه المقاسم قبل أن يفترق، فلا يرد، وكان بمنزلة الغنائم .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وهذا قول الليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وقال مالك مرة في المال يصيبه العدو من أموال الإسلام هكذا، وقال في العبد: صاحبه أحق به ما لم يقسم، فإذا قسمت الغنائم، فلا أرى بأسا أن يكون له بالثمن أرشا .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث: وهو أن لا يرد إلى صاحبه، هو للجيش، هذا قول الزهري . وقال عمرو بن دينار : سمعنا أن حرز العدو هو للمسلمين يقتسمونه، وقد ذكر قتادة هذا القول عن علي بن أبي طالب .

                                                                                                                                                                              6184 - حدثونا عن أبي موسى، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد، عن قتادة، عن خلاس، أن عليا، قال: من اشترى ما أحرز العدو فهو جائز . [ ص: 197 ]

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي في العبد يأبق إلى العدو، قال: إن أخذ قبل أن يدخل حصنا من حصونهم رد إلى مولاه، وإن دخل حصنا، فسبي هو بمنزلة أهل الحصن يجعل في الفيء .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: سواء أبق العبد إلى العدو، أو أخذ العدو العبد فأحرزوه، لا فرق بينهما، وهما لسيدهما إذا ظفر بهما، قبل أن يقسما، وبعد القسم [سواء] يأخذهما السيد قبل القسم، وبعده، هذا قول الشافعي، قال: والدلالة عليه من الكتاب، ودلت السنة، وكذلك يدل العقل والإجماع في موضع; لأن الله أورث المسلمين أموالهم، وديارهم، فجعلها غنما لهم، وخولا بإعزاز أهل دينه، وإذلال من خالف سوى أهل دينه، فلا يجوز أن يكون المسلمون إذا قدروا على أهل الحرب تخولوهم، وتمولوا أموالهم لم يكن أهل الحرب يحرزون على أهل الإسلام شيئا، فيكون لهم أن يتخولوه أبدا، فإن قال: فأين السنة التي دلت على ما ذكرت؟ قلت:

                                                                                                                                                                              6185 - أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، قال: سبيت امرأة من الأنصار، وكانت الناقة قد أصيبت قبلها - قال الشافعي : - كأنه يعني ناقة النبي صلى الله عليه وسلم; لأن آخر حديثه يدل على ذلك - قال عمران بن حصين: فكانت تكون فيهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت [كلما] أتت [ ص: 198 ] بعيرا، فمسته (رغا) فتركته، حتى أتت تلك الناقة، فمستها فلم ترغ، وهي ناقة هدرة، فقعدت في عجزها، ثم صاحت بها، فانطلقت، فطلبت من ليلتها، فلم يقدر عليها، فجعلت لله عليها، إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفوا الناقة، وقالوا: ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنها قد جعلت لله عليها لتنحرنها، فقالوا: والله لا تنحريها، حتى نؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوه، فأخبروه أن فلانة الأنصارية قد جاءت (على) ناقتك، وإنها جعلت لله عليها إن نجاها الله عليها أن تنحرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، بئس ما جزتها، إن أنجاها الله عليها أتنحرنها؟! لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، أو ابن آدم".

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وهذا الحديث يدل على أن العدو قد أحرزوا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأنصارية انفلتت من إسارهم عليها بعد إحرازهموها، ورأت أنها لها، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نذرت فيما لا تملك، ولا نذر لها، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، فدل ذلك على أن المشركين لا يملكون على المسلمين شيئا، وإذا لم يملك المشركون على المسلمين بما أوجفوا عليه بخيلهم، فأحرزوه في ديارهم، أشبه والله أعلم، ألا يملك المسلمون عنهم، ما لم يملكوا هم لأنفسهم قبل القسمة، ولا بعدها . [ ص: 199 ]

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : ولا أعلم خلافا في أن المشركين إذا أحرزوا عبدا لرجل، أو مالا، فأدركه قد أوجف المسلمون عليه قبل المقاسم أن يكون له بلا قيمة، ثم اختلفوا بعدما تقع في المقاسم، وإجماعهم على أنه لمالكه بعد إحراز العدو له، وإحراز المسلمين عن العدو له; حجة عليهم في أنه هكذا ينبغي أن يكون بعد القسم، وذكر الشافعي خبر ابن عمر .

                                                                                                                                                                              6186 - حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: سمعت نافعا مولى ابن عمر يزعم أن ابن عمر ذهب العدو بفرسه، فلما هزم العدو، وجد خالد بن الوليد فرسه، فرده إلى عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                              6187 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أبق غلام لي يوم اليرموك، ثم ظهر عليه المسلمون، فردوه إلي .

                                                                                                                                                                              وقول أبي ثور كقول الشافعي، وقال سفيان الثوري : إذا أبق العبد إلى العدو، ثم أصابه المسلمون، فصاحبه أحق به قسم أو لم يقسم .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقوله هذا موافق لقول النعمان .

                                                                                                                                                                              وقال سفيان الثوري : إذا أصاب العدو مملوكا، فاشتراه رجل من المسلمين فأعتقه، فليس لمولاه عليه سبيل هو استهلاك، وإن كانت جارية فاشتراها رجل، فوقع عليها فولدت، فليس لمولاها شيء . [ ص: 200 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد احتج بخبر عمران بن حصين فرقتان من الناس، احتج به بعض من يقول بالقول الأول، وقال: حديث عمران يدل على أن المسلم إذا أدرك ماله الذي أخذه المشركون، أنه أحق به ما لم يقسم; لأن القسم لم يكن جرى في الناقة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك يأخذ من أدرك ماله قبل القسم، واحتج به أحمد بن حنبل، وقوله خلاف قول الشافعي، واحتج به الشافعي، واحتج هذا القائل بخبر تميم بن طرفة .

                                                                                                                                                                              6188 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة، أن العدو، أصابوا ناقة رجل من المسلمين، فاشتراها رجل من المسلمين من العدو، فعرفها صاحبها، وأقام عليها البينة، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع إليه الثمن الذي اشتراها به من العدو، وإلا خلى بينها وبين المشتري .

                                                                                                                                                                              ودفع هذا القائل خبر ابن عمر، وقال: ليس فيه لمن خالفنا حجة، قال: وذلك أن فرس ابن عمر عار، فلحق بالروم، وبين العائر، والآبق، [ ص: 201 ] والمغلوب عليه فرق .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ولا أعلم أنه فرق بينهما بفرق يلزم، غير قوله: بين ذلك فرق، وذكر كلاما طويلا، قد أثبته في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب، تركته طلبا للاختصار .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: والذي به أقول: إن ما هو ملك للمسلم لا يجوز نقله عنه إلا بحجة، ولا نعلم مع من أوجب ملك العدو عليه، ونقل ملك المسلم عنه حجة من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، إلا دعواه الذي لا حجة معه، ومال المسلم لا يحل إلا بطيب نفس منه، أو بحكم يلزمه، فمن أزال ملك المسلم عما كان ملكا له بإجماع; بغير إجماع، لم يجب قبول ذلك منه، وذلك أن الإجماع يقين، والاختلاف شك، ولا يجوز الانتقال عن اليقين إلى الشك .

                                                                                                                                                                              6189 - حدثني محمد بن نصر، حدثنا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد، قال: حدثنا أبو أسامة، حدثني زائدة، قال: حدثني الركين بن الربيع الفزاري، عن أبيه، قال: أصاب المشركون قوسا لهم أزمان خالد بن الوليد، كانوا أحشروه، فأصابه المسلمون أزمان سعد، قال: فكلمناه، فرده علينا بعد ما قسم، وصار في (خمس) الإمارة . [ ص: 202 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية