الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر إباحة إيثاق الأسارى إلى أن يرى الإمام فيهم رأيه

                                                                                                                                                                              6217 - أخبرنا محمد بن علي النجار، أخبرنا عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قيل للنبي عليه السلام حين فرغ من بدر: عليك العير ليس دونها شيء، قال: فناداه العباس وهو في وثاقه، لا يصلح، فقال النبي عليه السلام: "لم؟" قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك . [ ص: 229 ]

                                                                                                                                                                              6218 - أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، قال: أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، فأوثقوه، وطرحوه في الحرة، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه - أو قال: أتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، وتحته قطيفة - فناداه يا محمد؟ فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما شأنك؟" قال: فيما أخذت؟، وفيما أخذت سابقة الحاج؟ فقال: "أخذت بجريرة حلفائك ثقيف" ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه ومضى، فناداه، يا محمد! يا محمد، فرحمه رسول الله فرجع إليه، فقال: "ما شأنك؟" قال: إني مسلم، قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" ، فتركه ومضى، فناداه: يا محمد؟ فرجع إليه، فقال: إني جائع فأطعمني - قال: وأحسبه قال - وإني عطشان فاسقني، قال: "هذه حاجتك" ، قال: [ففداه] رسول الله بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف، وأخذ ناقته تلك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد تكلم أصحابنا في قوله: إني مسلم، قال: "لو قلتها وأنت تملك نفسك أفلحت كل الفلاح" ، قال قائل: يحتمل أن يكون قوله: إني مسلم للخوف، يريد مستسلم لا مسلم لله فقال: "لو قلتها" لا على الخوف الذي اضطرك إلى ما قلت، "أفلحت كل الفلاح" ، فهذا صدق; لأن الإكراه إذا ارتفع عنه، كان إسلامه اختيارا لله ورغبة في توحيد الله، فأعلمه لو سبق هذا القول الإكراه كان إيمانا، فلما لم يكن سابقا [ ص: 230 ] حتى كان الإكراه، كان على غير الإسلام، بل كان على أن يتناول بذلك الطعام والشراب لقوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الذي طلبت" ، فأبان له النبي صلى الله عليه وسلم ما في ضميره، لما أعلمه الله، وكذلك يكون الله أعلمه أن إسلامه ليس بإسلام، فكان على كفره المتقدم; ولذلك فدى به رجلين من المسلمين; لأن من سنته ألا يفدي مسلما بمسلم، ولو كان مسلما لم يمكن منه الكفار .

                                                                                                                                                                              وقال آخر: في قوله: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" يشبه أن يكون يريد لو قلت: إني مسلم قبل أن تؤسر أفلحت كل الفلاح; أي: دنيا وآخرة، فلم تؤسر في الدنيا فتوثق، ولم تعذب في الآخرة إذا أسلمت طوعا لا كرها، وأما إذا قلت: إني مسلم بعد [الأسر] فلم تفلح كل الفلاح أي أن هذا الكلام لا يخرجك من الرق في الدنيا بعد إذ أسرت وأنت كافر لا مسلم، إذ لا خلاف بين المسلمين أعلمه أن الأسير من المشركين إذا أسلم بعد الإسار، لا يصير حرا بإسلامه، إلا من زعم أن العرب لا يجري عليهم ملك .

                                                                                                                                                                              فأما فداء النبي عليه السلام العقيلي بالرجلين من المسلمين كانا في يدي ثقيف أسيرين، فيشبه أن يكون إنما أطلقه من الأسر; لتطلق ثقيف عن الأسيرين اللذين له في أيديهم، (فيرجع) الثقفي إليهم حرا مسلما مطلقا من الأسر والوثاق، خارجا من العبودية، لا أن ثقيف يملكونه ملك رق وهو مسلم، وهم مشركون، إذ غير جائز عند جميع العلماء أن يرد مسلم إلى المشركين، فيستعبدونه في دار [الشرك] ، ولا في [ ص: 231 ] دار الإسلام، وغير جائز أن يكون حكم العقيلي بعد قوله: إني مسلم حكم المشركين، إذ كان أحكام الدنيا عند النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان حكم الظاهر لا حكم الباطن المغيب الذي تولى الله علمه، فلم يطلع عليه عباده، ألا تسمع خبر المقداد بن عمرو الكندي، واستئذانه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الرجل، بعد قوله: أسلمت لله، وتغليظ النبي عليه السلام في ذلك، وقوله: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وهو بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال" .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول: في قوله: "أخذت بجريرة حلفائك" إنما هو أن المأخوذ مشرك، مباح الدم والمال بشركه من جميع جهاته، والعفو عنه مباح، فلما كان هكذا، لم ينكر أن يقول: "أخذت" أي: حبست "بجريرة حلفائكم ثقيف"، ولما كان حبسه هذا حلالا بغير جناية غيره، وإرساله مباحا، جاز أن يحبس بجناية غيره، لاستحقاقه ذلك بنفسه .

                                                                                                                                                                              وقال بعض أهل العلم: إن في قوله "أخذت بجريرة حلفائك" كالدليل على أنه كان بينه وبينهم موادعة أو صلح، فنقضت ثقيف الموادعة أو الصلح بأسرهم الرجلين من أصحاب النبي عليه السلام، فأباح النبي عليه السلام أسر العقيلي بنقض ثقيف الموادعة أو الصلح، وترك بنو عقيل الإنكار عليهم، ومنعهم من فعلهم الذي كان نقض الصلح أو الموادعة . [ ص: 232 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية