الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر أهل السواد

                                                                                                                                                                              قال الله جل ذكره: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) .

                                                                                                                                                                              6020 - أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أخبرنا ابن وهب قال: وأخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، [ ص: 26 ] قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لولا أن أترك آخر الناس ببانا لا شيء لهم ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر .

                                                                                                                                                                              6021 - وأخبرنا محمد بن علي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما قرية (أتيتموها) فإن [سهمكم] فيها، وأيما قرية غضب الله عليها فأخمسوها فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم" .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقال غيره: "وأيما قرية عصت الله ورسوله" ، وهو أصح . [ ص: 27 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب فقالت طائفة: يجب قسم كل قرية افتتحت عنوة، كما تقسم الدنانير، والدراهم، والعروض، وسائر الأشياء .

                                                                                                                                                                              6022 - أخبرنا محمد بن عبد الله قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن (أبي) حبيب، عمن سمع عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما فتحنا مصر بغير عهد; قام الزبير فقال: اقسمها يا عمرو بن العاص! فقال عمرو: لا أقسم. فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه عمر بن الخطاب : أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول: " كلما ظهر عليه من قليل أموال المشركين وكثيره، أو دارا وغيره لا يختلف; لأنها غنيمة، وحكم الله في الغنيمة أن تخمس، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أوجف عليها بالخيل والركاب، فإن تركه الإمام ولم يقسمه فوقفه على المسلمين، أو تركه لأهله، رد حكم الإمام فيه، لأنه مخالف للكتاب والسنة معا، فأما الكتاب فقوله: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة الأخماس على من أوجف عليه بالخيل [ ص: 28 ] والركاب من كل ما أوجف عليه من أرض وعمارة ومال، وإن تركها لأهلها; اتبع أهلها بجميع ما صار في أيديهم من غلتها، فاستخرج من أيديهم وجعل لهم أجرة مثلهم فيما قاموا به عليه فيها، وكان لأهلها أن يتبعوا الإمام على ما فات منها; لأنها أموالهم أفاتها، فإن ظهر الإمام على بلاد عنوة فخمسها، ثم سأل أهل الأربعة الأخماس، ترك حقوقهم منها، فأعطوه ذلك طيبة به أنفسم، فله قبوله إن أعطوه وقفا على المسلمين، وأحسب عمر بن الخطاب إن كان صنع هذا في شيء من بلاد العنوة إنما استطاب أنفس أهلها عنها فصنع ما وصفت" .

                                                                                                                                                                              وقال في الكتاب المعروف بـ "سير الواقدي": "ولا أعرف ما أقول في السواد إلا ظنا مقرونا إلى علم" .

                                                                                                                                                                              6023 - أخبرنا الثقة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: كانت بجيلة ربع الناس، فقسم لهم ربع السواد فاستغلوه ثلاثا أو أربع سنين - أنا شككت - ثم قدمت على عمر بن الخطاب ومعي فلانة ابنة فلان امرأة منها قد سماها - لا يحضرني ذكر اسمها، فقال عمر بن الخطاب: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوا على الناس .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وكان في حديثه: وعاضني من حقي نيفا وثمانين دينارا . [ ص: 29 ]

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : "هذا الحديث دليل; إذ أعطى [جريرا] البجلي عوضا من سهمه، أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه، فتركوا حقوقهم فجعله وقفا للمسلمين، وهذا أولى الأمور بعمر بن الخطاب عندنا في السواد، وفتوحه إن كانت عنوة فهو كما وصفت، ظن عليه دلالة يقين" .

                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور: ويقسم الإمام ما ظهر عليه من أرض ودار وغير ذلك قسما واحدا، ويقسم ذلك على ما أمر الله به .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الإمام بالخيار في كل أرض أخذت عنوة إن شاء أن يقسمها قسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فإن شاء أن يجعلها فيئا فلا يقسمها ولا يخمسها، وتكون موقوفة على المسلمين عامة، كفعل عمر بن الخطاب بالسواد فعل، والأخبار التي رويت عن عمر بن الخطاب في هذا الباب دالة على المعنى الذي له أوقف عمر بن الخطاب السواد، يحكى هذا القول عن سفيان الثوري .

                                                                                                                                                                              6024 - حدثني علي، عن أبي عبيد أنه قال: " بهذا كان يأخذ سفيان بن سعيد، وهو معروف من قوله إلا أنه كان يقول: الخيار في الأرض العنوة إلى الإمام، إن شاء جعلها غنيمة فخمس وقسم، وإن شاء جعلها فيئا عاما للمسلمين ولم يخمس ولم يقسم. وبه قال أبو عبيد، قال: وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم براد لفعل عمر، ولكنه اتبع آية من كتاب الله فعمل بها، واتبع عمر آية أخرى فعمل بها، قال الله تبارك [ ص: 30 ] وتعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية، فهذه آية الغنيمة وهي لأهلها دون الناس، وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) إلى قوله: ( والذين جاؤوا من بعدهم ) ، فهذه آية الفيء وبها عمل عمر، وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها، قال: فاستوعبت هذه الآية الناس، وإلى هذه الآية ذهب علي، ومعاذ حيث أشارا عليه بما أشارا فيما نرى والله أعلم .

                                                                                                                                                                              6025 - حدثنا علي، عن أبي عبيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين، فأراد أن يحصوا، فوجد الرجل نصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور في ذلك فقال له علي بن أبي طالب : دعهم يكونوا مادة للمسلمين فتركهم، وبعث عليهم عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر .

                                                                                                                                                                              6026 - حدثنا علي عن أبي عبيد قال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، عن يحيى بن حمزة قال حدثني تميم بن عطية العنسي قال: أخبرنا عبد الله بن أبي قيس - أو عبد الله بن قيس شك أبو عبيد - قال: قدم عمر الجابية، فأراد قسم الأراضين بين المسلمين فقال له معاذ: والله إذا ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم، [ثم] يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد [ ص: 31 ] أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسعهم أولهم وآخرهم .

                                                                                                                                                                              وكان أحمد بن حنبل يقول في أرض السواد: عمر جعلها للناس عامة، وذكر حديث زيد بن أسلم، عن أبيه قال: لولا أن يترك آخر المسلمين لا شيء لهم ما تركت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، ثم قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ( للفقراء المهاجرين ) إلى قوله ( والذين جاؤوا من بعدهم ) ، فجعلها للمسلمين العامة، وأعطى جريرا ثم استردها منه، وقال له: يا جرير! لولا أني قاسم مسئول لكنتم على ما قسم لكم، وكان لا يرى بأسا أن يستأجر أرض السواد ممن هي في يديه، وكان يقول [في] أرض السواد والدخول فيها: [إن] كان الشرى أسهل، يشتري الرجل بقدر ما يكفيه، ويغنيه من الناس هو رجل من المسلمين [و] كان يقول: إنما هي أرض المسلمين، فهذا إنما في يديه منها ما يستغني (به) وهو رجل من المسلمين، وكره أبو عبد الله البيع في أرض السواد، الأثرم عنه .

                                                                                                                                                                              وحكى أبو داود عن أحمد أنه سئل عن بيع أرض السواد ما ترى فيه؟ فقال: دعه، فقال: الرجل يبيع منه يحج، قال: لا أدري . [ ص: 32 ]

                                                                                                                                                                              وأنكر أبو عبيد أن يكون عمر استطاب أنفس القوم، وذكر ما كلم به جريرا في أرض السواد وقصة البجلية .

                                                                                                                                                                              6027 - حدثنا علي، عن أبي عبيد قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية فجعل لهم عمر ربع السواد، فأخذوا سنتين أو ثلاثا، قال: فوفد عمار بن ياسر إلى عمر ومعه جرير بن عبد الله، فقال عمر لجرير : يا جرير! لولا أني قاسم مسئول لكنتم على ما جعل لكم، وأرى الناس قد كثروا، فأرى أن تردوا عليهم، ففعل ذلك جرير، فأجازه عمر بثمانين دينارا .

                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد : " ووجه هذا عندي: أن عمر كان نفل جريرا وقومه ذلك نفلا قبل القتال، وقبل خروجه إلى العراق، فأمضى له نفله، قال: كذلك يحدثه الشعبي عنه " .

                                                                                                                                                                              6028 - حدثنا علي، عن أبي عبيد قال: حدثني عفان، قال: حدثنا مسلمة بن علقمة، قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، أن عمر كان أول من وجه جرير بن عبد الله إلى الكوفة بعد قتل أبي عبيد فقال: هل لك في الكوفة، وأنفلك الثلث بعد الخمس؟ قال: نعم، فبعثه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: عارض أبو عبيد حديثا صحيح الإسناد بحديث مرسل، ثم الحديثين بعد ذلك مختلفي المعاني، في حديث قيس بن [ ص: 33 ] أبي حازم أن بجيلة كانت ربع الناس يوم القادسية فجعل لهم عمر ربع السواد، وفي حديث الشعبي عن عمر أنه جعل له الثلث بعد الخمس نفلا، وهذا المعنى بعيد من ذلك المعنى، فكيف يجوز أن يدفع حديث صحيح بحديث مرسل، لا يصح، ثم كيف يجوز أن يعارض ما لا يجوز المعارضة به لاختلاف معنى الحديثين؟ ثم ذكر قصة البجلية، وهي موافقة لما قاله من خالف أبا عبيد .

                                                                                                                                                                              6029 - حدثنا علي عن أبي عبيد قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل، عن قيس، قال: قالت امرأة من بجيلة (يقال) لها أم كرز لعمر: يا أمير المؤمنين! إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد، وإني لم أسلم، فقال لها: يا أم كرز! إن قومك قد صنعوا ما قد علمت، فقالت: إن كانوا صنعوا ما قد صنعوا، فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهبا، قال: ففعل عمر ذلك، وكانت الدنانير نحوا من ثمانين دينارا .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وحديث البجلية على أبي عبيد لا له، ألا تراه أرضاها لما قالت: لا أسلم ، وهذا موافق لما قاله الشافعي، وهو على أبي عبيد، حيث أنكر أن يكون عمر استطاب أنفس القوم . [ ص: 34 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية