الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر الرجل من المسلمين يطلع عليه أنه عين المشركين قد كتب بأخبار المسلمين إليهم

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيما يفعل بالرجل من المسلمين قد كاتب المشركين، وأخبرهم بأخبار المسلمين، فكان مالك بن أنس يقول: ما سمعت فيه بشيء، وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال الأوزاعي في جاسوس من المسلمين للعدو: يستتاب، فإن تاب قبلت توبته، وإن أبى عاقبه الإمام عقوبة موجعة، ثم غربه إلى بعض الآفاق وضمن الحبس .

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي : وقد سئل عن هذه المسألة: إن كان مسلما عاقبه الإمام عقوبة منكلة، وغربه إلى بعض الآفاق في وثاق، وإن كان ذميا قتل، فإنه قد نقض عهده، وإن كان أهل حرب بعثوا إليهم بأموال على مناصحتهم، قبض تلك الأموال، فوضع في بيت المال . [ ص: 301 ]

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي: يوجع عقوبة، ويطال حبسه .

                                                                                                                                                                              وقال عبد الملك الماجشون : أما من جهل الجهالة، وقد عرف بسوء الرعة وفساد الطريقة، ولم يكن لغفلته منه تأبد، ولا إواء يخشى عوره، وكان ذلك منه المرة، ولم يكن على وجه الضغن على الإسلام وأهله، وظن به الجهل، أدبه الأدب الغليظ، وجعله نكالا لمن سواه، وإذا وجدت من قد أعاد ذلك، وعرف منه، وتواطأ به عليه اللسان والذكر، فهو الجاسوس المختان لله ورسوله، فعليه القتل .

                                                                                                                                                                              وسئل الشافعي عن هذه المسألة، فقال: لا يحل دم من قد ثبتت له حرمة الإسلام، إلا أن يقتل، أو يزني بعد إحصان، أو يكفر كفرا بينا بعد الإيمان، ثم يثبت على الكفر، وليس الدلالة على عورة مسلم بكفر بين. قال الشافعي : والحجة فيه السنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب .

                                                                                                                                                                              6271 - أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت عليا، يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب" ، فخرجنا تعادي بنا خيلنا، فإذا نحن بظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي [ ص: 302 ] كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة، يخبر ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما هذا يا حاطب؟" ، فقال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان (من) معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم، ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك، أن أتخذ عندهم يدا، والله ما فعلته شكا في ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق" ، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه قد شهد [بدرا] ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم"، ونزلت: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وفي هذا الحديث مع ما وصفت لك طرح الحكم باستعمال الظنون; لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال، واحتمل المعنى الأقبح، كان القول قوله فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأن لم يقتله، ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا أعلم أحدا أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا; لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمه لجميع الآدميين بعده، وإذا كان من خان من المسلمين رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه [ ص: 303 ] على ما غاب عليه من ذلك، غير مستعمل عليه الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون كذلك مقبولا، كان من بعده في أقل من حاله، وأولى أن يقبل منه [مثل] ما قبل فيه .

                                                                                                                                                                              قال الشافعي : فإذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة، كما كان هذا من حاطب بجهالة، وكان غير متهم، أحببت أن يتجافى عنه، وإن كان من غير ذي الهيئة، كان للإمام والله أعلم تعزيره .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية