الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر قول من مال إلى القتل ورأى أنه أعلى من المن والفداء

                                                                                                                                                                              روينا عن أبي بكر الصديق، وليس بثابت عنه أنه قال في أسير يعطى به كذا وكذا: اقتلوه، قتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا، فكان عمر بن عبد العزيز، وعياض بن عقبة بن نافع يقتلان الأسارى، وقال مجاهد في أميرين أحدهما يقتل الأسارى، والآخر يفادي، الذي يقتل أفضل .

                                                                                                                                                                              وقال مالك في الأسارى: أمثل ذلك عندي أن يقتل كل من خيف .

                                                                                                                                                                              وقال إسحاق بن راهويه : الإثخان أحب إلي (إلا) أن يكون معروفا يطمع به الكثير .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ولعل من يميله إلى القتل قوله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا ) .

                                                                                                                                                                              6223 - حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا سليمان بن داود الزهراني، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، قال أخبرني أبي وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: اختلف الناس في أسارى بدر، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر. فقال أبو بكر: [ ص: 237 ] فادهم، وقال عمر: اقتلهم، قال قائل: أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدم الإسلام، ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر، أو أخوه ما أمر بقتلهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر، ففاداهم، فأنزل الله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر" .

                                                                                                                                                                              6224 - حدثنا موسى بن هارون، حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال لما كان يوم بدر جيء بالأسارى، وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله! قومك وأصلك، استبقهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله! كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعتك رحمك، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من [ ص: 238 ] الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ، مثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال: ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) ، ومثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ، ومثلك يا عمر مثل موسى إذ قال: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد، إلا بفداء أو ضربة عنق"، فقال عبد الله: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا سهيل بن بيضاء"، فأنزل الله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، إلى آخر الآيتين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد اختلفوا في معنى (قوله) : " ( حتى يثخن في الأرض ) الآية، فكان مجاهد يقول: الإثخان: القتل. وقال محمد بن إسحاق صاحب المغازي: حتى يثخن عدوهم حتى ينفيه من الأرض . [ ص: 239 ]

                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد: ومجازه حتى يغلب ويبالغ، وقال محمد بن إسحاق في قوله: ( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) ، (أي) تقتلهم لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه الذي به ندرك الآخرة، وقال مجاهد: قتل الأسير خير من إمساكه .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عنه، أنه قال في قوله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، ثم نزلت الرخصة بعد، إن شئت فمن، وإن شئت ففاد .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقال غير واحد من الأوائل: إن قوله: ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، نزل بعد قوله: ( فإما منا بعد وإما فداء ) ، روينا هذا القول عن مجاهد، والضحاك بن مزاحم، وابن جريج، والسدي .

                                                                                                                                                                              6225 - حدثنا علان، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) ، يعني نكل بهم من بعدهم .

                                                                                                                                                                              وقال قتادة في قوله: " ( فإما منا بعد وإما فداء ) " قد نسختها قوله: ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) .

                                                                                                                                                                              6226 - حدثنا علي، عن أبي عبيد، قال: حدثنا زيد، عن محمد بن [ ص: 240 ] عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد عليهم البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انزلوا على حكم سعد" ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فلما جاء قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احكم فيهم" ، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله" .

                                                                                                                                                                              6227 - حدثنا علي، عن أبي عبيد، حدثنا مروان بن معاوية، عن حميد الطويل، عن حبيب أبي يحيى، عن خالد بن زيد - وكانت عينه أصيبت بالسوس - فقال: " حاصرنا مدينتها فلقينا جهدا، وأمير الجيش أبو موسى الأشعري، فصالحه دهقان على أن يفتح له المدينة، ويؤمن مائة من أهله، ففعل، فأخذ عهد أبي موسى ومن معه، فقال أبو موسى: اعزلهم، فجعل يعزلهم، وجعل أبو موسى يقول لأصحابه: إني لأرجو أن يخدعه الله عن نفسه، فعزل المائة، وبقي عدو الله، فأمر به أبو موسى، قال: فنادى، وبذل مالا كثيرا، فأبى عليه، وضرب عنقه . [ ص: 241 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية