وقرأ "حرم" مبنيا للمفعول، فتحتمل "ما" في هذه القراءة وجهين، أحدهما: أن تكون "ما" مهيئة، و "الميتة" مفعول ما لم يسم فاعله. والثاني: أن تكون موصولة، فمفعول "حرم" القائم مقام الفاعل ضمير مستكن يعود على "ما" الموصولة، و "الميتة" خبر "إن". أبو جعفر:
[ ص: 236 ] وقرأ "حرم" بضم الراء مخففة، و "الميتة" رفعا و "ما" تحتمل الوجهين أيضا، فتكون مهيئة، و "الميتة" فاعل بحرم، أو موصولة، والفاعل ضمير يعود على "ما"، وهي اسم "إن"، و "الميتة" خبرها. أبو عبد الرحمن السلمي:
والجمهور على تخفيف" الميتة "في جميع القرآن، بالتشديد وهو الأصل، وهذا كما تقدم في أن "الميت" مخفف من "الميت" وأن أصله: ميوت، وهما لغتان، وسيأتي تحقيق ذلك عند قوله وأبو جعفر "يخرج الحي من الميت" في آل عمران. ويحكى عن قدماء النحاة أن "الميت" بالتخفيف من فارقت روحه جسده، وبالتشديد من عاين أسباب الموت ولم يمت. وحكى عن ابن عطية أبي حاتم أن ما قد مات يقالان فيه، وما لم يمت بعد لا يقال فيه بالتخفيف، ثم قال: "ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى عن البزي ابن كثير: "وما هو بميت". وأما قوله:
816 - إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجئ بزاد
[فقد حمل على من شارف الموت، وحمله على الميت حقيقة أبلغ في الهجاء] .
[ ص: 237 ] وأصل "ميتة": ميوتة، فأعلت بقلب الواو ياء وإدغام الياء فيها، وقال الكوفيون: أصله: مويت، ووزنه فعيل.
واللحم معروف، وجمعه لحوم ولحمان، يقال: لحم الرجل بالضم لحامة فهو لحيم، أي: غلظ، ولحم بالكسر يلحم بالفتح فهو لحم: اشتاق إلى اللحم وألحم الناس فهو لاحم، أي: أطعمهم اللحم، وألحم كثر عنده اللحم.
والخنزير حيوان معروف، وفي نونه قولان; أصحهما أنها أصلية ووزنه فعليل كغربيب. والثاني: أنها زائدة اشتقوه من خزر العين أي: ضيقها لأنه كذلك ينظر. وقيل: الخزر النظر بمؤخر العين، يقال: هو أخزر بين الخزر.
قوله: "وما أهل به" "ما" موصولة بمعنى الذي، ومحلهما: إما النصب وإما الرفع عطفا على "الميتة"، والرفع: إما على خبر إن، وإما على الفاعلية على حسب ما تقدم من القراءات. و "أهل" مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في "به"، والضمير يعود على "ما"، والباء بمعنى "في". ولا بد من حذف مضاف أي: في ذبحه، لأن المعنى وما صح في ذبحه لغير الله. والإهلال: مصدر أهل أي: صرخ ورفع صوته ومنه: الهلال لأنه يصرخ عند رؤيته، واستهل الصبي. قال ابن أحمر:
817 - يهل بالغرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر
[ ص: 238 ] قال النابغة:
818 - أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد
وقال:
819 - تضحك الضبع لقتلى هذيل وترى الذئب لها يستهل
قوله: "فمن اضطر" في "من" وجهان، أحدهما: أن تكون شرطية. والثاني: أن تكون موصولة بمعنى الذي، فعلى الأول يكون "اضطر" في محل جزم بها.
وقوله: "فلا إثم" جواب الشرط، والفاء فيه لازمة. وعلى الثاني لا محل لقوله: "اضطر" من الإعراب لوقوعه صلة، ودخلت الفاء في الخبر تشبيها للموصول بالشرط. ومحل "فلا إثم عليه" الجزم على الأول والرفع على الثاني.
والجمهور على "اضطر" بضم الطاء وهي أصلها، وقرأ بكسرها لأن الأصل: "اضطرر" بكسر الراء الأولى، فلما أدغمت الراء في الراء نقلت حركتها إلى الطاء بعد سلبها حركتها. وقرأ أبو جعفر ابن محيصن: "اطر" بإدغام الضاد في الطاء. وقد تقدم الكلام في هذه المسألة بأشبع من هذا عند قوله: "ثم أضطره إلى عذاب النار".
وقرأ أبو عمرو وعاصم بكسر نون "من" على أصل التقاء [ ص: 239 ] الساكنين، وضمها الباقون إتباعا لضم الثالث. وليس هذا الخلاف مقصورا على هذه الكلمة، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين، وضم الثالث ضما لازما نحو: وحمزة "ولقد استهزئ" "قل ادعوا" قالت اخرج جرى الخلاف المذكور. إلا أن خرج عن أصله في "أو" و "قل" فضمهما، أبا عمرو وابن ذكوان خرج عن أصله فكسر التنوين خاصة نحو: "محظورا انظر"، واختلف عنه في: "برحمة ادخلوا"، و "خبيثة اجتثت"، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك عند ذكره إن شاء الله تعالى.
قوله: "غير باغ" نصب على الحال، واختلف في صاحبها، فالظاهر أنه هو الضمير المستتر في "اضطر"، وجعله القاضي من فاعل فعل محذوف بعد قوله: "اضطر"، قالا: تقديره: فمن اضطر فأكل غير باغ، كأنهما قصدا بذلك أن يجعلاه قيدا في الأكل لا في الاضطرار. قال الشيخ "ولا يتعين ما قالاه، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله: وأبو بكر الرازي "غير [ ص: 240 ] باغ ولا عاد" بل هو الظاهر والأولى، لأن في تقديره قبل "غير باغ" فصلا بين ما ظاهره الاتصال بما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله: "غير باغ".
و "عاد" اسم فاعل من عدا يعدو إذا تجاوز حده، والأصل: عادو، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كغاز من الغزو. وهذا هو الصحيح، وفيه قول ثان: أنه مقلوب من عاد يعود فهو عائد، فقدمت اللام على العين فصار اللفظ: عادو، فأعل بما تقدم، ووزنه: فالع، كقولهم: شاك في شائك من الشوكة، وهار والأصل هائر، لأنه من هار يهور، قال "ولو جاء في غير القرآن منصوبا عطفا على موضع "غير" جاز" يعني فكان يقال: ولا عاديا. أبو البقاء:
وقد اختلف القراء في حركة التقاء الساكنين من نحو: "فمن اضطر"، وبابه فأبو عمرو وحمزة على كسر الأول منهما، والباقون على الضم إلا ما يستثنى لبعضهم. وضابط محل اختلافهم: كل ساكنين التقيا من كلمتين ثالث ثانيهما مضموم ضمة لازمة، نحو: وعاصم "فمن اضطر" "أو انقص منه قليلا" "وقالت اخرج عليهن" "قل ادعوا الله" "أن اعبدوا" "ولقد [ ص: 241 ] استهزئ" "محظورا انظر": وفهم من قولي "كلمتين" الاحتراز من أن يفصل بينهما بكلمة أخرى نحو: "إن الحكم" فإن هذا وإن صدق عليه أن الثالث مضموم ضما لازما; إلا أنه قد فصل بينهما بكلمة أخرى وهي أل المعرفة. ومن قولي: "ضمة لازمة" الاحتراز من نحو: "أن امشوا" فإن الشين أصلها الكسر، فمن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم فللإتباع.
واستثني موضعان فضمهما: وهما: لأبي عمرو "قل ادعوا" "أو انقص منه"، واستثني لابن ذكوان عن التنوين فكسره نحو: ابن عامر "محظورا انظر"، واختلف عنه في لفظتين: "خبيثة اجتثت" "برحمة ادخلوا الجنة" والمقصود بذلك الجمع بين اللغتين.