الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (105) قوله تعالى: من أهل الكتاب : في "من" قولان: أحدهما: أنها للتبعيض فتكون هي ومجرورها في محل نصب على الحال [ ص: 53 ] ويتعلق بمحذوف أي: ما يود الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب. الثاني: أنها لبيان الجنس وبه قال الزمخشري.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا المشركين" عطف على "أهل" المجرور بمن و "لا" زائدة للتوكيد لأن المعنى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كقوله: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين" بغير زيادة "لا" . وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار وأن الأصل: ولا المشركون، عطفا على الذين وإنما خفض للمجاورة، نحو: "برءوسكم وأرجلكم" في قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس: "ويجوز: ولا المشركون بعطفه على "الذين" وقال أبو البقاء: "وإن كان قد قرئ "ولا المشركون" بالرفع فهو عطف على الفاعل، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك" وهذان القولان يؤيدان ادعاء الخفض في الجوار.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن ينزل" ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول بـ"يود" أي: ما يود إنزال خير، وبني الفعل للمفعول للعلم بالفاعل وللتصريح به في قوله: "من ربكم"، وأتى بـ"ما" في النفي دون غيرها لأنها لنفي الحال وهم كانوا متلبسين بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من خير" هذا هو القائم مقام الفاعل، و "من" زائدة، أي: أن ينزل خير من ربكم. وحسن زيادتها هنا وإن كان "ينزل" لم يباشره حرف النفي لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نفيت الودادة انتفى متعلقها، [ ص: 54 ] وهذا له نظائر في كلامهم نحو: "ما أظن أحدا يقول ذلك إلا زيد" برفع "زيد" بدلا من فاعل "يقول" وإن لم يباشر النفي، لكنه في قوة: "ما يقول أحد ذلك إلا زيد في ظني" وقوله تعالى: "أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر" زيدت الباء لأنه في معنى: أوليس الله بقادر، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه. وأما الكوفيون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا. وقيل: "من" للتبعيض أي: ما يودون أن ينزل من الخير قليل ولا كثير، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل: "عليكم" والمعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخيور.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من ربكم" في "من" أيضا قولان، أحدهما: أنها لابتداء الغاية فتتعلق بينزل. والثاني: أنها للتبعيض، ولا بد حينئذ من حذف مضاف تقديره: من خيور ربكم، وتتعلق حينئذ بمحذوف، لأنها ومجرورها صفة لقوله: "من خير" أي: من خير كائن من خيور ربكم، ويكون في محلها وجهان: الجر على اللفظ، والرفع على الموضع لأن "من" زائدة في "خير" فهو مرفوع تقديرا لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ "من" قولين، الأولى: قيل إنها للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس، وفي الثانية قولان: زائدة أو للتبعيض، وفي الثالثة أيضا قولان: ابتداء الغاية أو التبعيض.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والله يختص برحمته من يشاء" هذه جملة ابتدائية تضمنت رد ودادتهم ذلك. و "يختص" يحتمل أن يكون هنا متعديا وأن يكون لازما، فإن [ ص: 55 ] كان متعديا كان فيه ضمير يعود على الله تعالى، وتكون "من" مفعولا به أي يختص الله الذي يشاؤه برحمته، ويكون معنى افتعل هنا معنى المجرد نحو: كسب مالا واكتسبه، وإن كان لازما لم يكن فيه ضمير ويكون فاعله "من" أي: والله يختص برحمته الشخص الذي يشاؤه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا تبين فساد قول من زعم أنه هنا متعد ليس إلا. و "من" يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد، أي: يشاء اختصاصه، ويجوز أن يضمن "يشاء" معنى يختار، فحينئذ لا حاجة إلى حذف مضاف بل تقدره ضميرا فقط أي: يشاؤه، و"يشاء" على القول الأول لا محل له لكونه صلة، وعلى الثاني محله النصب أو الرفع على ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلا أو مفعولا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية