الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (200) قوله تعالى: مناسككم : جمع "منسك" بفتح السين وكسرها، وسيأتي تحقيقهما، وقد تقدم اشتقاقها قريبا. والقراء على إظهار هذا، وروي عن أبي عمرو الإدغام، قالوا: شبه الإعراب بحركة البناء فحذفها للإدغام، وأدغم أيضا "مناسككم" ولم يدغم ما يشبهه من نحو: "جباههم" و "وجوههم".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كذكركم آباءكم" الكاف كالكاف في قوله "كما هداكم" إلا في كونها بمعنى "على" أو بمعنى اللام، فليلتفت إليه. والجمهور على نصب "آباءكم" مفعولا به، والمصدر مضاف لفاعله على الأصل. وقرأ محمد بن كعب: "آباؤكم" رفعا، على أن المصدر مضاف للمفعول، والمعنى: كما يلهج الابن بذكر أبيه. وروي عنه أيضا: "أباكم" بالإفراد على إرادة الجنس، وهي توافق قراءة الجماعة في كون المصدر مضافا لفاعله، ويبعد أن يقال: هو مرفوع على لغة من يجري "أباك" ونحوه مجرى المقصور.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 338 ] قوله: "أو أشد ذكرا" يجوز في "أشد" أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا: فأما جره فذكروا فيه وجهين، أحدهما: أن يكون مجرورا عطفا على "ذكركم" المجرور بكاف التشبيه، تقديره: أو كذكر أشد ذكرا، فتجعل للذكر ذكرا مجازا، وإليه ذهب الزجاج، وتبعه أبو البقاء، وابن عطية. والثاني: أنه مجرور عطفا على المخفوض بإضافة المصدر إليه، وهو ضمير المخاطبين. قال الزمخشري: "أو أشد ذكرا في موضع جر عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله: "كذكركم" كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا" وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسن، ليس فيه تجوز بأن يجعل للذكر ذكر، لأنه جعل "أشد" من صفات الذاكرين، إلا أن فيه العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوع عند البصريين ومحل ضرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نصبه فمن أوجه، أحده: أن يكون معطوفا على "آباءكم" قال الزمخشري، فإنه قال: "بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم، على أن "ذكرا" من فعل المذكور" وهذا كلام يحتاج إلى تفسير، فقوله: "هو معطوف على "آباءكم" معناه أنك إذا عطفت "أشد" على "آباءكم" كان التقدير: أو قوما أشد ذكرا من آبائكم، فكان القوم مذكورين، والذكر الذي هو تمييز بعد "أشد" هو من فعلهم، أي: من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد "أفعل" الذي [ ص: 339 ] هو صفة للقوم، ومعنى "من آبائكم" أي من ذكركم لآبائكم وهذا أيضا ليس فيه تجوز بأن جعل الذكر ذاكرا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يكون معطوفا على محل الكاف في "كذكركم" لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف، تقديره: ذكرا كذكركم آباءكم أو أشد، وجعلوا الذكر ذاكرا مجازا كقولهم: شعر شاعر، وهذا تخريج أبي علي وابن جني.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: قاله مكي: أن يكون منصوبا بإضمار فعل، قال: "تقديره: فاذكروه ذكرا أشد من ذكركم لآبائكم، فيكون نعتا لمصدر في موضع الحال، أي: اذكروه بالغين في الذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يكون منصوبا بإضمار فعل الكون، قال أبو البقاء: "وعندي أن الكلام محمول على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشد لله ذكرا منكم لآبائكم، ودل على هذا المعنى قوله: "فاذكروا الله" أي: كونوا ذاكريه، وهذا أسهل من حمله على المجاز" يعني المجاز الذي تقدم ذكره عن الفارسي وتلميذه.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن يكون "أشد" نصبا على الحال من "ذكرا" لأنه لو تأخر عنه لكان صفة له، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      891 - لمية موحشا طلل يلوح كأنه خلل

                                                                                                                                                                                                                                      "موحشا" حال من "طلل"، لأنه في الأصل صفة، فلما قدم تعذر بقاؤه [ ص: 340 ] صفة فجعل حالا، قاله الشيخ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثة أوجه لنصبه ووجهين لجره: "فهذه خمسة أوجه كلها ضعيفة، والذي يتبادر إلى الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشد، وقد ساغ لنا حمل هذه الآية عليه بوجه، ذهلوا عنه"، فذكر ما تقدم. ثم جوز في "ذكرا" والحالة هذه وجهين، أحدهما: أن يكون معطوفا على محل الكاف في "كذكركم". ثم اعترض على نفسه في هذا الوجه بأنه يلزم منه الفصل بين حرف العطف وهو "أو" وبين المعطوف وهو "ذكرا" بالحال "وهو" أشد"، وقد نص النحويون [على] أن الفصل بينهما لا يجوز إلا بشرطين، أحدهما: أن يكون حرف العطف أكثر من حرف واحد. والثاني: أن يكون الفاصل قسما أو ظرفا أو جارا، وأحد الشرطين موجود وهو الزيادة على حرف والآخر مفقود، وهو كون الفاصل ليس أحد الثلاثة المتقدمة. ثم أجاب بأن الحال مقدرة بحرف الجر وشبهه بالظرف فأجريت مجراهما.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: من الوجهين في "ذكرا" أن يكون مصدرا لقوله: "فاذكروا" ويكون قوله: "كذكركم" في محل نصب على الحال من "ذكرا" لأنها في الأصل صفة له، فلما قدمت كانت في محل حال، ويكون "أشد" عطفا على هذه الحال، وتقدير الكلام: فاذكروا الله ذكرا كذكركم، أي: مشبها ذكركم أو أشد، فيصير نظير: "اضرب مثل ضرب فلان ضربا أو أشد" الأصل: اضرب ضربا مثل ضرب فلان أو أشد.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ذكرا" تمييز عند غير الشيخ كما تقدم، واستشكلوا كونه تمييزا منصوبا [ ص: 341 ] وذلك أن أفعل التفضيل يجب أن تضاف إلى ما بعدها إذا كان من جنس ما قبلها نحو: "وجه زيد أحسن وجه"، "وعلمه أكثر علم" وإن لم يكن من جنس ما قبلها وجب نصبه نحو: "زيد أحسن وجها وخالد أكثر علما". إذا تقرر ذلك فقوله: "ذكرا" هو من جنس ما قبلها فعلى ما قرر كان يقتضي جره، فإنه نظير: "اضرب بكرا كضرب عمرو زيدا أو أشد ضرب" بالجر فقط. والجواب عن هذا الإشكال مأخوذ من الأوجه المتقدمة في النصب والجر المذكورين في "أشد" من حيث أن يجعل الذكر ذاكرا مجازا كقولهم: "شعر شاعر" كما قال به الفارسي وصاحبه، أو يجعل "أشد" من صفات الأعيان لا من صفات الإذكار كما قال به الزمخشري، أو يجعل "أشد" حالا من "ذكرا" أو ننصبه بفعل. وهذا كله وإن كان مفهوما مما تقدم إلا أني ذكرته بالتنصيص، تسهيلا للأمر فإنه موضع يحتاج إلى نظر وتأمل. وهذا نهاية القول في هذه المسألة بالنسبة لهذا الكتاب. و "أو" هنا قيل للإباحة، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من يقول ربنا آتنا"" من" مبتدأ، وخبره في الجار قبله، ويجوز أن تكون فاعلة عند الأخفش، وأن تكون نكرة موصوفة. وفي هذا الكلام التفات، إذ لو جرى على النسق الأول لقيل: "فمنكم"، وحمل على معنى "من" إذ جاء جمعا في قوله: "ربنا آتنا"، ولو حمل على لفظها لقال "رب آتني".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مفعول "آتنا" الثاني - لأنه يتعدى لاثنين ثانيهما غير الأول - ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه محذوف اختصارا أو اقتصارا، لأنه من باب "أعطى"، أي: آتنا ما نريد أو مطلوبنا. والثاني: أن "في" بمعنى "من" أي: من الدنيا. والثالث: أنها زائدة، أي: آتنا الدنيا، وليسا بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية