الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (217) قوله تعالى: قتال فيه : قراءة الجمهور: "قتال" بالجر، وفيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه خفض على البدل من "الشهر" بدل الاشتمال; إذ القتال واقع فيه فهو مشتمل عليه. والثاني: أنه خفض على التكرير، قال أبو البقاء: "يريد أن التقدير: "عن قتال فيه". وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: "هو مخفوض بـ "عن" مضمرة. وهذا ضعيف جدا، لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار". وهذا لا ينبغي أن يعد خلافا بين البصريين والكسائي والفراء، لأن البدل عند جمهور البصريين على نية تكرار العامل، وهذا هو بعينه قول الكسائي. وقوله: لأن حرف الجر لا يبقى عمله بعد حذفه" إن أراد في غير البدل فمسلم، وإن أراد في البدل فممنوع، وهذا هو الذي عناه الكسائي. الثالث: قاله أبو عبيدة: "أنه خفض على الجوار". قال أبو البقاء: "وهو أبعد من قولهما - يعني الكسائي والفراء - لأن الجوار من مواضع الضرورة أو الشذوذ فلا يحمل عليه [ ص: 390 ] ما وجدت عنه مندوحة". وقال ابن عطية: "هو خطأ". قال الشيخ: "إن كان أبو عبيدة عنى بالجوار المصطلح عليه فهو خطأ. وجهة الخطأ أن الخفض على الجوار عبارة عن أن يكون الشيء تابعا لمرفوع أو منصوب من حيث اللفظ والمعنى فيعدل به عن تبعيته لمتبوعه لفظا، ويخفض لمجاورته لمخفوض. كقولهم: "هذا جحر ضب خرب" بجر "خرب"، وكان من حقه الرفع; لأنه من صفات الجحر لا من صفات الضب، ولهذه المسألة مزيد بيان يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، و "قتال" هنا ليس تابعا لمرفوع أو منصوب وجاور مخفوضا فخفض. وإن كان عنى أنه تابع لمخفوض فخفضه بكونه جاور مخفوضا، أي صار تابعا له، لم يكن خطأ، إلا أنه أغمض في عبارته فالتبس بالمصطلح عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس والأعمش: "عن قتال" بإظهار "عن" وهي في مصحف عبد الله كذلك، وقرأ عكرمة: "قتل فيه، قل قتل فيه" بغير ألف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا: "قتال فيه" بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ والجار والمجرور بعده خبر، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه على نية همزة الاستفهام، تقديره: أقتال فيه. والثاني: أنه مرفوع باسم فاعل تقديره: أجائز قتال فيه، فهو فاعل به. وعبر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكون خبر مبتدأ محذوف، فجاء رفعه من ثلاثة أوجه: إما مبتدأ وإما فاعل وإما خبر مبتدأ. قالوا: ويظهر هذا من حيث إن سؤالهم لم يكن عن كينونة القتال في الشهر [ ص: 391 ] أم لا، وإنما كان سؤالهم: هل يجوز القتال فيه أو لا؟ وعلى كلا هذين الوجهين فهذه الجملة المستفهم عنها في محل جر بدلا من الشهر الحرام، لأن "سأل" قد أخذ مفعوليه فلا تكون هي المفعول وإن كانت محط السؤال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فيه" على قراءة خفض "قتال" فيه وجهان، أحدهما: أنه في محل خفض لأنه صفة لـ "قتال". والثاني: أنه في محل نصب لتعلقه بقتال لكونه مصدرا. وقال أبو البقاء: "كما يتعلق بقتال" ولا حاجة إلى هذا التشبيه، فإن المصدر عامل بالحمل على الفعل. والضمير في "يسألونك" قيل للمشركين، وقيل للمؤمنين. والألف واللام في "الشهر" قيل: للعهد وهو رجب، وقيل: للجنس فيعم جميع الأشهر الحرم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "قتال فيه كبير" جملة من مبتدأ وخبر، محلها النصب بقل، وجاز الابتداء بالنكرة لأحد وجهين: إما الوصف، إذا جعلنا قوله "فيه" صفة له وإما التخصيص بالعمل إذا جعلناه متعلقا بقتال، كما تقدم في نظيره. فإن قيل: قد تقدم لفظ نكرة وأعيدت من غير دخول ألف ولام عليها وكان حقها ذلك، كقوله تعالى: "كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول" فقال أبو البقاء: "ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسئول عنه حتى يعاد بالألف واللام، بل المراد تعظيم أي قتال كان، فعلى هذا "قتال" الثاني غير الأول"، وهذا غير واضح; لأن الألف واللام في الاسم المعاد أولا لا تفيد [ ص: 392 ] تعظيما، بل إنما تفيد العهد في الاسم السابق. وأحسن منه قول بعضهم: "إن الثاني غير الأول، وذلك أن سؤالهم عن قتال عبد الله بن جحش، وكان لنصرة الإسلام وخذلان الكفر فليس من الكبائر، بل الذي من الكبائر قتال غير هذا، وهو ما كان فيه إذلال الإسلام ونصرة الكفر، فاختير التنكير في هذين اللفظين لهذه الدقيقة، ولو جيء بهما معرفتين أو بأحدهما معرفا لبطلت هذه الفائدة".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وصد" فيه وجهان، أحدهما مبتدأ وما بعده عطف عليه، و "أكبر" خبر عن الجميع. وجاز الابتداء بصد لأحد ثلاثة أوجه: إما لتخصيصه بالوصف بقوله: "عن سبيل الله" وإما لتعلقه به، وإما لكونه معطوفا، والعطف من المسوغات. والثاني: أنه عطف على "كبير" أي: قتال فيه كبير وصد، قاله الفراء. قال ابن عطية: "وهو خطأ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: "وكفر به" عطف أيضا على "كبير"، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر، وهو بين فساده". وهذا الذي رد به قول الفراء غير لازم له; إذ له أن يقول: إن قوله "وكفر به" مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و "أكبر" خبر عنهما، أي: مجموع الأمرين أكبر من القتال والصد، ولا يلزم من ذلك أن يكون إخراج أهل المسجد أكبر من الكفر، بل يلزم منه أنه أكبر من القتال. في الشهر الحرام.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مصدر حذف فاعله ومفعوله; إذ التقدير: وصدكم - يا كفار - المسلمين عن سبيل الله وهو الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      و "كفر" فيه وجهان، أحدهما: أنه عطف على "صد" على قولنا بأن [ ص: 393 ] "صدا" مبتدأ لا على قولنا بأنه خبر ثان عن "قتال"، لأنه يلزم منه أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرا وليس كذلك، إلا أن يراد بقتال الثاني ما فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر كما تقدم ذلك عن بعضهم، فيكون كفرا، فيصح عطفه عليه مطلقا، وهو أيضا مصدر لكنه لازم، فيكون قد حذف فاعله فقط: أي: وكفركم. والثاني: أن يكون مبتدأ كما يأتي تفصيل القول فيه. والضمير في "به" فيه وجهان، أحدهما: أنه يعود على "سبيل" لأنه المحدث عنه. والثاني أنه يعود على الله، والأول أظهر. و "به" فيه الوجهان، أعني كونه صفة لكفر، أو متعلقا به، كما تقدم في "فيه".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والمسجد الحرام" الجمهور على قراءته مجرورا. وقرئ شاذا مرفوعا. فأما جره فاختلف فيه النحويون على أربعة أوجه، أحدها: - وهو قول المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابن عطية، قال ابن عطية: "وهو الصحيح - أنه عطف على "سبيل الله" أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد". وهذا مردود بأنه يؤدي إلى الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي تقريره أن "صدا" مصدر مقدر بأن والفعل و "أن" موصول، وقد جعلتم "والمسجد" عطفا على "سبيل" فهو من تمام صلته، وفصل بينهما بأجنبي وهو "وكفر به". ومعنى كونه أجنبيا أنه لا تعلق له بالصلة. فإن قيل: يتوسع في الظرف وحرف الجر ما لم يتسع في غيرهما. قيل: إنما قيل بذلك في التقديم لا في الفصل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 394 ] الثاني: أنه عطف على الهاء في "به" أي: وكفر به وبالمسجد، وهذا يتخرج على قول الكوفيين. وأما البصريون فيشترطون في العطف على الضمير المجرور إعادة الخافض إلا في ضرورة، فهذا التخريج عندهم فاسد. ولا بد من التعرض لهذه المسألة وما هو الصحيح فيها. فأقول وبالله العون: اختلف النحاة في العطف على الضمير المجرور على ثلاثة مذاهب: أحدها - وهو مذهب الجمهور من البصريين -: وجوب إعادة الجار إلا في ضرورة. الثاني: أنه يجوز ذلك في السعة مطلقا، وهو مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين. والثالث: التفصيل، وهو إن أكد الضمير جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو: "مررت بك نفسك وزيد"، وإلا فلا يجوز إلا ضرورة، وهو قول الجرمي. والذي ينبغي أنه يجوز مطلقا لكثرة السماع الوارد به، وضعف دليل المانعين واعتضاده بالقياس.

                                                                                                                                                                                                                                      أما السماع: ففي النثر كقولهم: "ما فيها غيره وفرسه" بجر "فرسه" عطفا على الهاء في "غيره". وقوله: "تساءلون به والأرحام" في قراءة جماعة كثيرة، منهم حمزة، وستأتي هذه الآية إن شاء الله، ومنه: "ومن لستم له برازقين" فـ "من" عطف على "لكم" في قوله تعالى: "لكم فيها معايش". وقوله: "ما يتلى عليكم" عطف على "فيهن" وفيما يتلى عليكم". وفي النظم وهو كثير جدا، فمنه قول العباس بن مرداس:


                                                                                                                                                                                                                                      930 - أكر على الكتيبة لا أبالي أفيها كان حتفي أم سواها

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 395 ] فـ "سواها" عطف على "فيها"، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      931 - تعلق في مثل السواري سيوفنا     وما بينها والأرض غوط نفانف

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      932 - هلا سألت بذي الجماجم عنهم     وأبي نعيم ذي اللواء المحرق

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      933 - بنا أبدا لا غيرنا تدرك المنى     وتكشف غماء الخطوب الفوادح

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      934 - لو كان لي وزهير ثالث وردت     من الحمام عدانا شر مورود

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      935 - إذا أوقدوا نارا لحرب عدوهم     فقد خاب من يصلى بها وسعيرها

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      936 - إذا بنا بل أنيسان اتقت فئة     ظلت مؤمنة ممن يعاديها

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 396 ] وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      937 - آبك أيه بي أو مصدر     من حمر الجلة جأب حشور

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد سيبويه:


                                                                                                                                                                                                                                      938 - فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا     فاذهب فما بك والأيام من عجب

                                                                                                                                                                                                                                      فكثرة ورود هذا وتصرفهم في حروف العطف، فجاؤوا تارة بالواو، وأخرى بـ "لا"، وأخرى بـ "أم"، وأخرى بـ "بل" دليل على جوازه. وأما ضعف الدليل: فهو أنهم منعوا ذلك لأن الضمير كالتنوين، فكما لا يعطف على التنوين لا يعطف عليه إلا بإعادة الجار. ووجه ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلة ألا يعطف على الضمير مطلقا، أعني سواء كان مرفوع الموضع أو منصوبه أو مجروره، وسواء أعيد معه الخافض أم لا كالتنوين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القياس فلأنه تابع من التوابع الخمسة فكما يؤكد الضمير المجرور ويبدل منه فكذلك يعطف عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون معطوفا على "الشهر الحرام" أي: يسألونك عن الشهر الحرام وعن المسجد الحرام. قال أبو البقاء: "وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشكوا في تعظيمه، وإنما سألوا عن [ ص: 397 ] القتال في الشهر الحرام لأنه وقع منهم، ولم يشعروا بدخوله فخافوا من الإثم، وكان المشركون عيروهم بذلك "ولا يظهر ضعفه بذلك لأنه على هذا التخريج يكون سؤالهم عن شيئين، أحدهما القتال في الشهر الحرام. والثاني: القتال في المسجد الحرام، لأنهم لم يسألوا عن ذات الشهر ولا عن ذات المسجد، إنما سألوا عن القتال فيهما كما ذكرتم، فأجيبوا بأن القتال في الشهر الحرام كبير وصد عن سبيل الله تعالى، يكون "قتال" أخبر عنه بأنه كبير، وبأنه صد عن سبيل الله، وأجيبوا بأن القتال في المسجد الحرام وإخراج أهله أكبر من القتال فيه. وفي الجملة فعطفه على الشهر الحرام متكلف جدا يبعد عنه نظم القرآن والتركيب الفصيح.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن يتعلق بفعل محذوف دل عليه المصدر تقديره: ويصدون عن المسجد، كما قال تعالى: "هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام" قاله أبو البقاء، وجعله جيدا. وهذا غير جيد لأنه يلزم منه حذف حرف الجر وإبقاء عمله، ولا يجوز ذلك إلا في صور ليس هذا منها، على خلاف في بعضها، ونص النحويون على أنه ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      939 - إذا قيل: أي الناس شر قبيلة     أشارت كليب بالأكف الأصابع

                                                                                                                                                                                                                                      أي: إلى كليب فهذه أربعة أوجه، أجودها الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما رفعه فوجهه أنه عطف على "وكفر به" على حذف مضاف تقديره "وكفر بالمسجد" فحذفت الباء وأضيف "كفر" إلى المسجد، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يخفى ما فيه من التكلف، إلا أنه لا تخرج هذه القراءة الشاذة بأكثر من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 398 ] قوله: "وإخراج أهله" عطف على "كفر" أو "صد" على حسب الخلاف المتقدم، وهو مصدر حذف فاعله، وأضيف إلى مفعوله، تقديره: "وإخراجكم أهله". والضمير في "أهله" و "منه" عائد على المسجد وقيل: الضمير في "منه" عائد على سبيل الله، والأول أظهر و "منه" متعلق بالمصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أكبر" فيه وجهان، أحدهما: أنه خبر عن الثلاثة، أعني: صدا وكفرا وإخراجا كما تقدم، وفيه حينئذ احتمالان، أحدهما: أن يكون خبرا عن المجموع، والاحتمال الآخر أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد، كما تقول: "زيد وبكر وعمر أفضل من خالد" أي: كل واحد منهم على انفراده أفضل من خالد. وهذا هو الظاهر. وإنما أفرد الخبر لأنه أفضل من تقديره: أكبر من القتال في الشهر الحرام. وإنما حذف لدلالة المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني من الوجهين في "أكبر": أن يكون خبرا عن الأخير، ويكون خبر "وصد" و "كفر" محذوفا لدلالة خبر الثالث عليه تقديره: وصد وكفر أكبر. قال أبو البقاء في هذا الوجه: "ويجب أن يكون المحذوف على هذا "أكبر" لا "كبير" كما قدره بعضهم; لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حذف خبر "وصد" و "كفر" لدلالة خبر "قتال" عليه أي: القتال في الشهر الحرام كبير، والصد والكفر كبيران أيضا، وإخراج أهل المسجد أكبر من القتال في الشهر الحرام. ولا يلزم من ذلك أن يكون أكبر من مجموع ما تقدم حتى يلزم ما قاله من المحذور.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "عند الله" متعلق بـ "أكبر"، والعندية هنا مجاز لما عرف. وصرح هنا بالمفضول في قوله: "والفتنة أكبر من القتل" لأنه لا دلالة عليه لو حذف، [ ص: 399 ] بخلاف الذي قبله حيث حذف. قوله: "حتى يردوكم" حتى حرف جر، ومعناها يحتمل وجهين: أحدهما: الغاية، والثاني: التعليل بمعنى كي، والتعليل أحسن لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك، ولذلك لم يذكر الزمخشري غير كونها للتعليل قال: "وحتى" معناها التعليل كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة" أي: "يقاتلونكم كي يردكم". ولم يذكر ابن عطية غير كونها غاية قال: "ويردوكم" نصب بـ "حتى" لأنها غاية مجردة" وظاهر قوله: "منصوب بحتى" أنه لا يضمر "أن" لكنه لا يريد ذلك وإن كان بعضهم يقول بذلك. الفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوبا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "يزالون" مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدمها نفي أو نهي أو دعاء، وقد يحذف النافي باطراد إذا كان الفعل مضارعا في جواب قسم وإلا فسماعا، وأحكامها في كتب النحو، ووزنها فعل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها: يزيل، وإن كان الأكثر يزال، فأما زال التامة فوزنها فعل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول، ومعناها التحول. و "عن دينكم" متعلق "بيردوكم" وقوله: "إن استطاعوا" شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي: إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم، ومن رأى جواز تقديم الجواب جعل "لا يزالون" جوابا مقدما، وقد تقدم الرد عليه بأنه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم: "أنت ظالم إن فعلت".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 400 ] قوله: "ومن يرتدد"" من" شرطية في محل رفع بالابتداء، ولم يقرأ هنا أحد بالإدغام، وفي المائدة اختلفوا فيه، فنؤخر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع كقوله: "فارتدا على آثارهما قصصا": قال الشيخ: "وقد عدها بعضهم فيما يتعدى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صير، وجعل من ذلك قوله: "فارتد بصيرا" أي: رجع" وهذا منه [سهو] ; لأن الخلاف إنما هو بالنسبة إلى كونها بمعنى صار أم لا، ولذلك مثلوا بقوله: "فارتد بصيرا" فمنهم من جعلها بمعنى "صار"، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالا، وإلا فأين المفعولان هنا؟ وأما الذي عدوه يتعدى لاثنين بمعنى "صير" فهو رد لا ارتد، فاشتبه عليه رد بـ "ارتد"، وصير بـ "صار".

                                                                                                                                                                                                                                      و "منكم" متعلق بمحذوف; لأنه حال من الضمير المستكن في "يرتدد"، و "من" للتبعيض، تقديره: ومن يرتدد في حال كونه كائنا منكم، أي: بعضكم. و "عن دينه" متعلق بيرتدد. و "فيمت" عطف على الشرط والفاء مؤذنة بالتعقيب.

                                                                                                                                                                                                                                      "وهو كافر" جملة حالية من ضمير "يمت"، وكأنها حال مؤكدة لأنها لو حذفت لفهم معناها، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد، وجيء بالحال هنا [ ص: 401 ] جملة، مبالغة في التأكيد من حيث تكرر الضمير بخلاف ما لو جيء بها اسما مفردا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فأولئك" جواب الشرط. قال أبو البقاء: و "من في موضع مبتدأ، والخبر هو الجملة التي هي قوله: "فأولئك حبطت"، وكان قد سلف له عند قوله: "فمن تبع هداي" أن خبر اسم الشرط هو فعل الشرط لا جوابه ورد على من يدعي ذلك بما حكيته عنه ثمة، ويبعد منه توهم كونها موصولة لظهور الجزم في الفعل بعدها، ومثله لا يقع في ذلك".

                                                                                                                                                                                                                                      و "حبط" فيه لغتان: كسر العين - وهي المشهورة - وفتحها، وبها قرأ أبو السمال في جميع القرآن، ورويت عن الحسن أيضا. والحبوط: أصله الفساد ومنه: "حبط بطنه" أي: انتفخ، ومنه "رجل حبنطى" أي: منتفخ البطن.

                                                                                                                                                                                                                                      وحمل أولا على لفظ "من" فأفرد في قوله: "يرتدد، فيمت وهو كافر" وعلى معناها ثانيا في قوله: "فأولئك" إلى آخره، فجمع، وقد تقدم أن مثل هذا التركيب أحسن الاستعمالين: أعني الحمل أولا على اللفظ ثم على المعنى. وقوله "في الدنيا" متعلق بـ "حبطت".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "وأولئك أصحاب النار" إلى آخره تقدم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه الجملة: هل هي استئنافية، أي: لمجرد الإخبار بأنهم أصحاب النار، فلا تكون داخلة في جزاء الشرط، بل تكون معطوفة على جملة الشرط، أو هي معطوفة على الجواب فيكون محلها الجزم؟ قولان، [ ص: 402 ] رجع الأول بالاستقلال وعدم التقييد، والثاني بأن عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشرط، والقرب مرجح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية