الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (151) قوله تعالى: كما أرسلنا : في الكاف قولان، أظهرهما: أنها للتشبيه. والثاني: أنها للتعليل، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف. واختلف الناس في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه، أحدها: أنها متعلقة بقوله: "ولأتم" تقديره: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام الرسول فيكم، ومتعلق الإتمامين مختلف، فالأول بالثواب في الآخرة والثاني بإرسال الرسول في الدنيا، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله: "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" والثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، [ورجحه مكي لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى] : ولأتم نعمتي ببيان ملة أبيكم إبراهيم كما أجبنا دعوته فيكم فأرسلنا إليكم رسولا منكم. الثاني أنها متعلقة بيهتدون، تقديره: يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولا، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت، أي: اهتداء متحققا كتحقق إرسالنا. الثالث: - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقة بقوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، أي: جعلا مثل إرسالنا. وهذا بعيد جدا لطول الفصل المؤذن بالانقطاع. الرابع: أنها متعلقة بما بعدها وهو "فاذكروني"، قال الزمخشري: "كما ذكرتكم [ ص: 182 ] بإرسال الرسل فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف أي: اذكروني ذكرا مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار: مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، والفاء غير مانعة من ذلك" قال أبو البقاء: "كما لم تمنع في باب الشرط" يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها. [وقد رد مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله] لاشتغاله بجوابه و "اذكروني" قد أجيب بقوله: "أذكركم" فلا يتعلق به ما قبله، قال "ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين نحو: إذا أتاك فلان فأكرمه ترضه، فيكون "كما" و "فأذكركم" جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر، وتقول: "كما أحسنت إليك فأكرمني" فيصح أن تجعل الكاف متعلقة بأكرمني إذ لا جواب له".

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ: "لا نعلم خلافا في جوازه" وأما قوله: "إلا أن يشبه بالشرط" وجعله "كما" جوابا للأمر فليس بتشبيه صحيح ولا يتعقل، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب. قال الشيخ: وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها". انتهى وقد تقدم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من "نعمتي" والتقدير: ولأتم نعمتي مشبهة إرسالنا فيكم رسولا، أي: مشبهة نعمة الإرسال، فيكون على حذف مضاف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 183 ] وأما على القول بأنها للتعليل فتتعلق بما بعدها، وهو قوله: "فاذكروني" أي: اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولا، وكون الكاف للتعليل واضح، وجعل بعضهم منه: "واذكروه كما هداكم"، وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      776 - لا تشتم الناس كما لا تشتم .. ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا تشتم لامتناع الناس من شتمك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "ما" المتصلة بهذه الكاف ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها مصدرية وقد تقدم تحريره. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائد محذوف، و "رسولا" بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولا، وهذا بعيد جدا، وأيضا فإن فيه وقوع "ما" على آحاد العقلاء وهو قول مرجوح الثالث: أنها كافة للكاف كهي في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      777 - لعمرك إنني وأبا حميد     كما النشوان والرجل الحليم



                                                                                                                                                                                                                                      ولا حاجة إلى هذا، فإنه لا يصار إلى ذلك إلا حيث تعذر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم. و "منكم" في محل نصب لأنه صفة لـ "رسولا" وكذلك ما بعده من الجمل، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالا لتخصص النكرة بوصفها بقوله: "منكم"، وأتى بهذه الصفات بصيغة المضارع لأنه يدل على التجدد والحدوث، وهو مقصود هاهنا بخلاف كونه منهم فإنه وصف ثابت له، وهنا قدم التزكية على [ ص: 184 ] التعليم، وفي دعاء إبراهيم بالعكس، والفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر وكذلك فسروه، وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها، وقوله: "ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" بعد قوله: "ويعلمكم الكتاب والحكمة" من باب ذكر العام بعد الخاص وهو قليل بخلاف عكسه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية