الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (158) قوله تعالى: إن الصفا : "الصفا" اسمها، و "من شعآئر الله" خبرها. قال أبو البقاء: "وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: "طواف الصفا، أو سعي الصفا". وألف الصفا عن واو بدليل قلبها في التثنية واوا، قالوا: صفوان، والاشتقاق يدل عليه أيضا لأنه من الصفو، وهو الخلوص، والصفا الحجر الأملس وقيل: الذي لا يخالطه غيره من طين أو تراب، ويفرق بين واحده وجمعه تاء التأنيث نحو: صفا كثير وصفاة واحدة، وقد يجمع الصفا على فعول وأفعال قالوا: صفي بكسر الصاد وضمها كعصي، وأصفاء، والأصل: صفوو وأصفاو، فقلبت الواوان في "صفوو" ياءين، والواو في أصفاء همزة ككساء وبابه. والمروة: الحجارة الصغار، فقيل اللينة وقيل: الصلبة، وقيل المرهفة الأطراف، وقيل البيض وقيل: السود، وهما في الآية علمان لجبلين معروفين. والألف واللام فيهما للغلبة كهما في البيت والنجم، وجمعها: مرو، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      780 - وترى المرو إذا ما هجرت عن يديها كالفراش المشفتر



                                                                                                                                                                                                                                      والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، وقيل: جمع شعارة، والمراد بها في الآية مناسك الحج ، والأجود "شعائر" بالهمز لزيادة حرف المد وهو عكس معائش ومصائب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فمن حج البيت" "من" شرطية في محل رفع بالابتداء، و "حج" في محل جزم، و "البيت" نصب على المفعول به لا على الظرف، والجواب قوله: "فلا جناح". والحج لغة: القصد مرة بعد أخرى، قال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 189 ]

                                                                                                                                                                                                                                      781 - لراهب يحج بيت المقدس     في منقل وبرجد وبرنس



                                                                                                                                                                                                                                      والاعتمار: الزيارة، وقيل: مطلق القصد، ثم صارا علمين بالغلبة في المعاني كالبيت والنجم في الأعيان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فلا جناح عليه" الظاهر أن "عليه" خبر "لا"، و "أن يطوف" أصله: في أن يطوف، فحذف حرف الجر، فيجيء في محلها القولان: النصب أو الجر. والوقف في هذا الوجه على قوله "بهما". وأجازوا بعد ذلك أوجها ضعيفة منها: أن يكون الكلام قد تم عند قوله "فلا جناح" على أن يكون خبر "لا" محذوفا، وقدره أبو البقاء: "فلا جناح في الحج" ويبتدأ بقوله: "عليه أن يطوف" فيكون "عليه" خبرا مقدما و "أن يطوف " في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، فإن الطواف واجب، قال أبو البقاء هنا: "والجيد أن يكون "عليه" في هذا الوجه خبرا، و " أن يطوف " مبتدأ ".

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها: أن يكون "عليه أن يطوف" من باب الإغراء، فيكون "أن يطوف" في محل نصب كقولك، عليك زيدا، أي: الزمه، إلا أن إغراء الغائب ضعيف، حكى سيبويه: "عليه رجلا ليسني"، قال: وهو شاذ. ومنها: أن "أن يطوف" في محل رفع خبر ثان لـ "لا" والتقدير: فلا جناح الطواف بهما. ومنها: "أن يطوف" في محل نصب على الحال من الهاء في "عليه"، والعامل في الحال العامل في الخبر، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوافه بهما. وهذان القولان ساقطان ذكرتهما تنبيها على غلطهما، ولا فائدة في ذكر وجه الغلط إذا هو واضح بأدنى نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 190 ] وقراءة الجمهور "أن يطوف" بغير لا. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر بن حوشب: "أن لا يطوف" قالوا: وكذلك في مصحفي أبي وعبد الله. وفي هذه القراءة احتمالان، أحدهما: أنها زائدة كهي في قوله: ألا تسجد" و قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      782 - وما ألوم البيض ألا تسخرا     لما رأين الشمط القفندرا



                                                                                                                                                                                                                                      وحينئذ يتحد معنى القراءتين. والثاني: أنها غير زائدة بمعنى أن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه، إذ هو تخيير بين الفعل والترك نحو: "فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ"، فتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطواف نصا وفي هذه رفع الجناح في الترك نصا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "يطوف" بتشديد الطاء والواو، والأصل: يتطوف، وماضيه كان أصله: "تطوف"، فلما أريد الإدغام تخفيفا قلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء فاحتيج إلى همزة وصل لسكون أوله لأجل الإدغام فأتي بها فجاء مضارعه عليه: يطوف فانحذفت همزة الوصل لتحصن الحرف المدغم بحرف المضارعة، ومصدره على التطوف رجوعا إلى أصل تطوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو السمال: "يطوف" مخففا، من طاف يطوف وهي سهلة. وقرأ [ ص: 191 ] ابن عباس: "يطاف" بتشديد الطاء مع الألف وأصله: يطتوف على وزن يفتعل وماضيه: اطتوف افتعل تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء فوجب قلبها طاء وإدغام الطاء فيها كما قالوا: اطلب يطلب، والأصل: اطتلب يطتلب، فصار: اطاف وجاء مضارعه عليه: يطاف. هذا هو تصريف هذه اللفظة من كون تاء الافتعال تقلب طاء وتدغم فيها الطاء الأولى. وقال ابن عطية: "فجاء يطتاف أدغمت التاء - بعد الإسكان - في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول كما جاء في "مدكر"، ومن لم يجز ذلك قال: قلبت التاء طاء ثم أدغمت الطاء في الطاء، وفي هذا نظر لأن الأصلي أدغم في الزائد وذلك ضعيف".

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي قاله ابن عطية فيه خطأ من وجهين، أحدهما: كونه يدعي إدغام الثاني في الأول وذلك لا نظير له، إنما يدغم الأول في الثاني. والثاني: أنه قال كما جاء في "مدكر" لأنه كان ينبغي على قوله أن يقال: مذكر بالذال المعجمة وهذه لغة رديئة، إنما اللغة الجيدة بالمهملة لأنا قلبنا تاء الافتعال بعد الذال المعجمة دالا مهملة فاجتمع متقاربان فقلبنا أولهما لجنس الثاني وأدغمنا، وسيأتي تحقيق ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ومصدر اطاف على الاطياف بوزن الافتعال، والأصل: اطواف فكسر ما قبل الواو فقلبت ياء، وإنما عادت الواو إلى أصلها لزوال موجب قلبها ألفا ويوضح ذلك قولهم: اعتاد اعتيادا، والأصل: اعتواد ففعل به ما ذكرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ومن تطوع خيرا" قرأ حمزة والكسائي "تطوع" هنا وفي الآية [ ص: 192 ] الآتية بعدها: يطوع بالياء فعلا مضارعا، وقرأه الباقون: "تطوع" فعلا ماضيا. فأما على قراءتهما فتكون "من" شرطية ليس إلا، لعملها الجزم. وأصل يطوع. يتطوع فأدغم على نحو ما تقدم في "يطوف" وهي في محل رفع بالابتداء، والخبر فعل الشرط على ما هو الصحيح كما تقدم تحقيقه. وقوله: "فإن الله" جملة في محل جزم لأنها جواب الشرط، ولا بد من عائد مقدر أي: فإن الله شاكر له. وقال أبو البقاء: "وإذا جعلت "من" شرطا لم يكن في الكلام حذف ضمير لأن ضمير "من" في تطوع" وهذا يخالف ما قدمت لك نقله عن النحويين من أنه إذا كان أداة الشرط اسما لزم أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه وتقدم تحقيق ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على قراءة الجمهور فتحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون شرطية، والكلام فيها كما تقدم. والثاني: أن تكون موصولة و "تطوع" صلتها فلا محل له من الإعراب حينئذ، وتكون في محل رفع بالابتداء أيضا و "فإن الله" خبره، ودخلت الفاء لما تضمن من معنى الشرط، والعائد محذوف كما تقدم أي: شاكر له، وانتصاب "خيرا" على أحد أوجه: إما على إسقاط حرف الجر أي: تطوع بخير، فلما حذف الحرف انتصب نحو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      783 - تمرون الديار ولم تعوجوا      . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      وهو غير مقيس. الثاني: أن يكون نعت مصدر محذوف أي: تطوعا خيرا. والثالث: أن يكون حالا من ذلك المصدر المقدر معرفة، وهذا مذهب سيبويه وقد تقدم غير مرة، أو على تضمين "تطوع"، فعلا يتعدى، [ ص: 193 ] أي: من فعل [خيرا متطوعا به] . وقد تلخص مما تقدم أن في قوله: "فإن الله شاكر عليم" وجهين، أحدهما: الجزم على القول بكون "من" شرطية والثاني: الرفع على القول بكونها موصولة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية