الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (236) قوله تعالى: ما لم تمسوهن : في "ما" هذه ثلاثة [ ص: 486 ] أقوال، أظهرها: أن تكون مصدرية ظرفية، تقديره: مدة عدم المسيس كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1004 - إني بحبلك واصل حبلي وبريش نبلك رائش نبلي     ما لم أجدك على هدى أثر
                                                                                                                                                                                                                                      يقرو مقصك قائف قبلي

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن تكون شرطية بمعنى إن، نقله أبو البقاء. وليس بظاهر، لأنه يكون حينئذ من باب اعتراض الشرط على الشرط، فيكون الثاني قيدا في الأول نحو: "إن تأت إن تحسن إلي أكرمك" أي: إن أتيت محسنا، وكذا في الآية الكريمة: إن طلقتموهن غير ماسين لهن، بل الظاهر أن هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى، لأن "ما" الظرفية مشبهة بالشرطية، ولذلك تقتضي التعميم. والثالث: أن تكون موصولة بمعنى الذي، وتكون للنساء; كأنه قيل: إن طلقتم النساء اللائي لم تمسوهن، وهو ضعيف، لأن "ما" الموصولة لا يوصف بها، وإن كان يوصف بالذي والتي وفروعها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "تمسوهن" ثلاثيا وهي واضحة. وقرأ حمزة والكسائي: "تماسوهن" من المفاعلة، فيحتمل أن يكون فاعل بمعنى فعل كسافر، فتوافق الأولى، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة، فإن الفعل من الرجل والتمكين من المرأة، ولذلك قيل لها زانية. ورجح الفارسي [ ص: 487 ] قراءة الجمهور بأن أفعال هذا الباب كلها ثلاثية نحو: نكح فرع سفد وضرب الفحل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أو تفرضوا" فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه مجزوم عطفا على "تمسوهن"، و "أو" على بابها من كونها لأحد الشيئين، قاله ابن عطية. والثاني: أنه منصوب بإضمار أن عطفا على مصدر متوهم، و "أو" بمعنى إلا، التقدير: ما لم تمسوهن إلا أن تفرضوا، كقولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، قاله الزمخشري. والثالث: أنه معطوف على جملة محذوفة تقديره: "فرضتم أو لم تفرضوا" فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهو ضعيف جدا، وكأن الذي حسن هذا كون لفظ "لم" موجودا قبل ذلك. والرابع: أن تكون "أو" بمعنى الواو، و "تفرضوا" عطفا على "تمسوهن" فهو مجزوم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فريضة" فيها وجهان، أظهرهما: أنها مفعول به وهي بمعنى مفعولة، أي: إلا أن تفرضوا لهن شيئا مفروضا. والثاني: أن تكون منصوبة على المصدر بمعنى فرضا. واستجود أبو البقاء الوجه الأول، قال: "وأن يكون مفعولا به وهو الجيد" والموصوف محذوف تقديره: متعة مفروضة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ومتعوهن" قال أبو البقاء: "ومتعوهن معطوف على فعل محذوف تقديره: فطلقوهن ومتعوهن". وهذا لا حاجة إليه، فإن الضمير [ ص: 488 ] المنصوب في "متعوهن" عائد على المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض، المذكورين في قوله: "إن طلقتم النساء" إلى آخرها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "على الموسع قدره"، جملة من مبتدأ وخبر، وفيها قولان، أحدهما: أنها لا محل لها من الإعراب، بل هي استئنافية بينت حال المطلق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره. والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، وذو الحال فاعل "متعوهن". قال أبو البقاء: "تقديره: بقدر الوسع"، وهذا تفسير معنى. وعلى جعلها حالية فلا بد من رابط بينها وبين صاحبها، وهو محذوف تقديره: على الموسع منكم. ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه تقديره: "على موسعكم قدره".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "الموسع" بسكون الواو وكسر السين اسم فاعل من أوسع يوسع. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة، اسم مفعول من "وسع". وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص: "قدره" بفتح الدال في الموضعين، والباقون بسكونها.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا: هل هما بمعنى واحد أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبر أئمة العربية إلى أنهما بمعنى واحد، حكى أبو زيد: "خذ قدر كذا وقدر كذا"، بمعنى واحد، قال: "ويقرأ في كتاب الله: [ ص: 489 ] "فسالت أودية بقدرها" و "قدرها"، وقال: "وما قدروا الله حق قدره" ولو حركت الدال لكان جائزا. وذهب جماعة إلى أنهما مختلفان، فالساكن مصدر والمتحرك اسم كالعد والعدد والمد والمدد، وكأن القدر بالتسكين الوسع، يقال: "هو ينفق على قدره" أي وسعه. وقيل: بالتسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار. قال أبو جعفر: "وأكثر ما يستعمل بالتحريك إذا كان مساويا للشيء، يقال: "هذا على قدر هذا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ بعضهم بفتح الراء، وفي نصبه وجهان، أحدهما: أن يكون منصوبا على المعنى، قال أبو البقاء: "وهو مفعول على المعنى، لأن معنى "متعوهن" ليؤد كل منكم قدر وسعه" وشرح ما قاله أن يكون من باب التضمين، ضمن "متعوهن" معنى "أدوا". والثاني: أن يكون منصوبا بإضمار فعل تقديره: فأوجبوا على الموسع قدره. وجعله أبو البقاء أجود من الأول. وفي السجاوندي: "وقال ابن أبي عبلة: "قدره أي قدره الله" انتهى. وظاهر هذا أنه قرأ بفتح الدال والراء، فيكون "قدره" فعلا ماضيا، وجعل فيه ضميرا فاعلا يعود على الله تعالى، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من "متعوهن". والمعنى: أن الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 490 ] قوله: "متاعا" في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدر، وتحريره أنه اسم مصدر، لأن المصدر الجاري على صدره إنما هو التمتيع، فهو من باب: "أنبتكم من الأرض نباتا". وقال الشيخ: "قالوا: انتصب على المصدر، وتحريره أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسم له، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز، والعامل فيه: "ومتعوهن" وفيه نظر، لأن المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان كضرب بمعنى مضروب، وإما إطلاق الأعيان على المصدر فلا يجوز، وإن كان بعضهم جوزه على قلة نحو قولهم: "تربا وجندلا" و "أقائما وقد قعد الناس". والصحيح أن "تربا" ونحوه مفعول به، و "قائما" نصب على الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني من وجهي "متاعا" أن ينتصب على الحال. والعامل فيه ما تضمنه الجار والمجرور من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكن في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقر عليه في حال كونه متاعا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالمعروف" فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمتعوهن فتكون الباء للتعدية. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لمتاعا، فيكون في محل نصب، والباء للمصاحبة، أي: متاعا ملتبسا بالمعروف. وجوز الحوفي وجها ثالثا وهو أن يتعلق بنفس "متاعا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حقا" في نصبه أربعة أوجه، أحدهما: أنه مصدر مؤكد لمعنى الجملة قبله كقولك: "هذا ابني حقا" وهذا المصدر يجب إضمار عامله [ ص: 491 ] تقديره: حق ذلك حقا. ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله. والثاني: أن يكون صفة لمتاعا، أي: متاعا واجبا على المحسنين. والثالث: أنه حال مما كان حالا منه "متاعا"، وهذا على رأي من يجيز تعدد الحال. والرابع: أن يكون حالا من "المعروف"، أي بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين. و "على المحسنين" يجوز أن يتعلق بحقا، لأنه بمعنى الواجب، وأن يتعلق بمحذوف لأنه صفة له.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية