الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 252 ] آ. (178) قوله تعالى: القصاص في القتلى : أي: بسبب القتلى، و "في" تكون للسببية كقوله عليه السلام: "إن امرأة دخلت النار في هرة" أي: بسببها. و "فعلى" يطرد أن يكون جمعا لفعيل بمعنى مفعول وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: "وإن يأتوكم أسارى".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "الحر بالحر" مبتدأ وخبر، والتقدير: الحر مأخوذ بالحر، أو مقتول بالحر، فتقدر كونا خاصا حذف لدلالة الكلام عليه، فإن الباء فيه للسبب، ولا يجوز أن تقدره كونا مطلقا، إذ لا فائدة فيه لو قلت: الحر كائن بالحر، إلا أن تقدر مضافا، أي: قتل الحر كائن بالحر. وأجاز الشيخ أن يكون "الحر" مرفوعا بفعل محذوف تقديره: يقتل الحر بالحر، يدل عليه قوله: "القصاص في القتلى" فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدر، وفيه بعد.

                                                                                                                                                                                                                                      والقصاص مصدر قاصه يقاصه قصاصا ومقاصة، نحو: قاتلته قتالا ومقاتلة، وأصله من قصصت الشيء اتبعت أثره، لأنه اتباع دم المقتول.

                                                                                                                                                                                                                                      والحر وصف، و "فعل" الوصف جمعه على أفعال لا ينقاس، قالوا: حر وأحرار، ومر وأمرار، والمؤنثة حرة، وجمعها على "حرائر" محفوظ أيضا، يقال: حر الغلام يحر حرية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فمن عفي" يجوز في "من" وجهان، أحدهما: أن تكون شرطية. والثاني: أن تكون موصولة. وعلى كلا التقديرين فموضعهما رفع بالابتداء، وعلى الأول يكون "عفي" في محل جزم بالشرط، وعلى الثاني لا محل له وتكون الفاء واجبة في قوله: "فاتباع" على الأول، ومحلها وما بعدها الجزم، [ ص: 253 ] وجائزة في الثاني، ومحلها وما بعدها الرفع على الخبر. والظاهر أن "من" هو القاتل، والضمير في "له" و "أخيه" عائد على "من" و "شيء" هو القائم مقام الفاعل، والمراد به المصدر، وبني "عفي" للمفعول وإن كان قاصرا، لأن القاصر يتعدى للمصدر كقوله: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة". والأخ هو المقتول أو ولي الدم، وسماه أخا للقاتل استعطافا له عليه، وهذا المصدر القائم مقام الفاعل المراد به الدم المعفو عنه. وعفا يتعدى إلى الجاني وإلى الجناية بـ "عن"، تقول: عفوت عن زيد، وعفوت عن ذنب زيد، فإذا عدي إليهما معا تعدى إلى الجاني باللام وإلى الجناية بعن، تقول: عفوت لزيد عن ذنبه، والآية من هذا الباب أي: فمن عفي له عن جنايته. وقيل "من" هو ولي الدم. أي: من جعل له من دم أخيه بدل الدم وهو القصاص أو الدية والمراد بـ "شيء" حينئذ ذلك المستحق، والمراد بالأخ المقتول، ويحتمل أن يراد به على هذا القول أيضا القاتل، ويراد بالشيء الدية و "عفي" بمعنى يسر على هذين القولين، وقيل: بمعنى ترك.

                                                                                                                                                                                                                                      وشنع الزمخشري على من فسر "عفي" بمعنى "ترك" قال: فإن قلت: هلا فسرت "عفي" بمعنى "ترك" حتى يكون "شيء" في معنى المفعول به. قلت: لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس يثبت، ولكن "أعفاه" ومنه: "وأعفوا اللحى" فإن قلت: قد ثبت قولهم: عفا أثره إذا محاه وأزاله، فهلا جعلت معناه: فمن محي له من أخيه شيء. قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها، وترى كثيرا ممن [ ص: 254 ] يتعاطى هذا العلم يجترئ إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لم تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "إذا ثبت أن "عفا" بمعنى محا فلا يبعد حمل الآية عليه، ويكون إسناد "عفا" لمرفوعه إسنادا حقيقيا; لأنه إذ ذاك مفعول به صريح، وإذا كان لا يتعدى كان إسناده لمرفوعه مجازا لأنه مصدر مشبه بالمفعول به، فقد يتعادل الوجهان: أعنى كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات و "عفا" المتعدي بمعنى"محا" لتعلقه بمرفوعه تعلقا حقيقيا" فإن قيل: تضمن "عفا" معنى "ترك" فالجواب أن التضمين لا ينقاس، وقد أجاز ابن عطية أن يكون عفا بمعنى ترك. وقيل: إن "عفي" بمعنى فضل، والمعنى: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، من قولهم: عفا الشيء إذا كثر. وأظهر هذه الأقوال أولها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فاتباع بالمعروف" في رفع "اتباع" ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فقدره ابن عطية: فالحكم أو الواجب الاتباع، وقدره الزمخشري: فالأمر اتباع. قال ابن عطية: "وهذا سبيل الواجبات، وأما المندوبات فتجيء منصوبة كقوله: "فضرب الرقاب". قال الشيخ "ولا أدري ما الفرق بين النصب والرفع إلا ما ذكروه من أن الجملة الاسمية [ ص: 255 ] أثبت وآكد، فيمكن أن يكون مستند ابن عطية هذا، كما قالوا في قوله: "قالوا سلاما، قال سلام".

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يرتفع بإضمار فعل، وقدره الزمخشري: فليكن اتباع. قال الشيخ: "هو ضعيف إذ "كان" لا تضمر غالبا إلا بعد "إن"- الشرطية و "لو" لدليل يدل عليه".

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، فمنهم من قدره متقدما عليه، أي: فعليه اتباع، ومنهم من قدره متأخرا عنه، أي: فاتباع بالمعروف عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالمعروف" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يتعلق باتباع فيكون منصوب المحل. الثاني: أن يكون وصفا لقوله "اتباع" فيتعلق بمحذوف ويكون محله الرفع. الثالث: أن يكون في محل نصب على الحال من الهاء المحذوفة تقديره: فعليه اتباعه عادلا، والعامل في الحال معنى الاستقرار.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وأدآء" في رفعه أربعة أوجه، الثلاثة المقولة في قوله "فاتباع" لأنه معطوف عليه. والرابع: أن يكون مبتدأ خبره الجار والمجرور بعده، وهو "بإحسان" وهو بعيد. و "إليه" في محل نصب لتعلقه "بأداء" ويجوز أن يكون في محل رفع صفة لأداء، فيتعلق بمحذوف، أي: وأداء كائن إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      و "بإحسان" فيه أربعة أوجه: الثلاثة المقولة في "بالمعروف"، والرابع: [ ص: 256 ] أن يكون خبر "الأداء" كما تقدم في الوجه الرابع من رفع "أداء". والهاء في "إليه" تعود إلى العافي وإن لم يجر له ذكر، لأن "عفا" يستلزم عافيا، فهو من باب تفسير الضمير بمصاحب بوجه ما، ومنه: "حتى توارت بالحجاب" أي الشمس، لأن في ذكر "العشي" دلالة عليها، ومثله:


                                                                                                                                                                                                                                      828 - فإنك والتأبين عروة بعدما دعاك وأيدينا إليه شوارع     لكالرجل الحادي وقد تلع الضحى
                                                                                                                                                                                                                                      وطير المنايا فوقهن أواقع



                                                                                                                                                                                                                                      فالضمير في "فوقهن" للإبل، لدلالة لفظ "الحادي" عليها لأنها تصاحبه بوجه ما.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ذلك تخفيف" الإشارة بذلك إلى ما شرعه من العفو والدية و "من ربكم" في محل رفع لأنه صفة لما قبله فيتعلق بمحذوف. و "رحمة" صفتها محذوفة أيضا أي: ورحمة من ربكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فمن اعتدى" يجوز في "من" الوجهان الجائزان في قوله: "فمن عفي له" من كونها شرطية وموصولة، وجميع ما ذكر ثمة يعود هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولكم في القصاص حياة" يجوز أن يكون "لكم" الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه "لكم"، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "حياة"، لأنه كان في الأصل صفة لها، فلما قدم عليها نصب حالا، ويجوز أن يكون "في القصاص" هو الخبر، و "لكم" متعلق بالاستقرار المتضمن له، وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله: "ولكم في الأرض مستقر"، وهناك أشياء لا تجيء هنا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 257 ] وقرأ أبو الجوزاء "في القصص" والمراد به القرآن. قال ابن عطية: "ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص، أي إنه إذا قص أثر القاتل قصصا قتل كما قتل".

                                                                                                                                                                                                                                      والقصاص مصدر قص أي: تتبع، وهذا أصل المادة، فمعنى القصاص تتبع الدم بالقود، ومنه "القصيص" لما يتتبع من الكلأ بعد رعيه، والقصص تتبع الأخبار ومثله القص، والقص أيضا الجص، ومنه الحديث:

                                                                                                                                                                                                                                      "نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبور" أي تجصيصها.

                                                                                                                                                                                                                                      ونظير هذا الكلام قول العرب: "القتل أوفى للقتل" ويروى أنفى للقتل، ويروى: أكف للقتل. وهذا وإن كان بليغا فقد أبدت العلماء بينه وبين الآية الكريمة وجوها عديدة في البلاغة وجدت في الآية الكريمة دونه، منها: أن في قولهم تكرار الاسم في جملة واحدة. ومنها: أنه لا بد من تقدير حذف لأن "أنفى" و"أوفى" و "أكف" أفعل تفضيل فلا بد من تقدير المفضل عليه، أي: أنفى للقتل من ترك القتل. ومنها: أن القصاص أعم إذ يوجد في النفس وفي الطرف. والقتل لا يكون إلا في النفس. ومنها: أن ظاهر قولهم كون وجود الشيء سببا في انتفاء نفسه. ومنها: أن في الآية نوعا من البديع يسمى الطباق وهو مقابلة الشيء بضده فهو يشبه قوله تعالى: "أضحك وأبكى".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يا أولي الألباب" منادى مضاف وعلامة نصبه الياء. واعلم أن [ ص: 258 ] "أولي" اسم جمع لأن واحده وهو "ذو" من غير لفظه، ويجري مجرى جمع المذكر السالم في رفعه بالواو ونصبه وجره بالياء المكسور ما قبلها، وحكمه في لزوم الإضافة إلى اسم جنس حكم مفرده. وقد تقدم في قوله: "ذوي القربى"، ويقابله في المؤنث: أولات. وكتبا في المصحف بواو بعد الهمزة قالوا: ليفرقوا بين "أولي كذا" في النصب والجر وبين "إلى" التي هي حرف جر، ثم حمل باقي الباب عليه، وهذا كما تقدم في الفرق بين "أولئك" اسم إشارة و "إليك" جارا ومجرورا وقد تقدم. وإذا سميت بأولي من أولي كذا قلت: جاء ألون ورأيت إلين، برد النون لأنها كالمقدرة حالة الإضافة فهو نظير: ضاربو زيد وضاربي زيد.

                                                                                                                                                                                                                                      والألباب جمع "لب" وهو العقل الخالي من الهوي، سمي بذلك لأحد وجهين: إما لبنائه من لب بالمكان أقام به، وإما من اللباب وهو الخالص، يقال: لببت بالمكان ولببت بضم العين وكسرها، ومجيء المضاعف على فعل بضم العين شاذ، استغنوا عنه بفعل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عززت وسررت ولببت ودممت ومللت، فهذه بالضم وبالفتح، إلا لببت فبالضم والكسر كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية