الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (187) قوله تعالى: ليلة الصيام : منصوب على الظرف، وفي الناصب له ثلاثة أقوال، أحدها: - وهو المشهور عند المعربين - أنه "أحل"، وليس بشيء، لأن الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت. الثاني: أنه مقدر مدلول عليه بلفظ "الرفث"، تقديره: أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام، كما خرجوا قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      855 - وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان

                                                                                                                                                                                                                                      أي: إذعان للذلة إذعان، وإنما لم يجز أن ينتصب بالرفث لأنه مصدر مقدر بموصول، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول فلذلك احتجنا إلى إضمار عامل من لفظ المذكور. الثالث: أنه متعلق بالرفث، وذلك على رأي من يرى الاتساع في الظروف والمجرورات، وقد تقدم تحقيقه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأضيفت الليلة اتساعا لأن شرط صحته وهو النية موجودة فيها، والإضافة [تحصل] بأدنى ملابسة، وإلا فمن حق الظرف المضاف إلى حدث أن يوجد ذلك الحدث في جزء من ذلك الظرف، والصوم في الليل غير معتبر، ولكن المسوغ لذلك ما ذكرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 293 ] والجمهور على "أحل" مبنيا للمفعول للعلم به وهو الله تعالى، وقرئ مبنيا للفاعل، وفيه حينئذ احتمالان، أحدهما: أن يكون من باب الإضمار لفهم المعنى، أي أحل الله، لأن من المعلوم أنه هو المحلل والمحرم. والثاني: أن يكون الضمير عائدا على ما عاد عليه من قوله: "فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" وهو المتكلم، ويكون ذلك التفاتا، وكذلك في قوله "لكم" التفات من ضمير الغيبة في: "فليستجيبوا وليؤمنوا". وعدي "الرفث" بإلى، وإنما يتعدى بالباء لما ضمن من معنى الإفضاء، كأنه قيل: أحل لكم الإفضاء إلى نسائكم بالرفث.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله "الرفوث". والرفث لغة مصدر: رفث يرفث إذا تكلم بالفحش، وأرفث أتى بالرفث، قال العجاج:


                                                                                                                                                                                                                                      856 - ورب أسراب حجيج كظم     عن اللغا ورفث التكلم

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: - ويروى عن ابن عباس - "إن الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة". وقيل: الرفث: الجماع نفسه، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      857 - ويرين من أنس الحديث زوانيا     ولهن عن رفث الرجال نفار

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      858 - فظلنا هنالك في نعمة     وكل اللذاذة غير الرفث

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 294 ] ولا دليل فيه لاحتمال إرادة مقدمات الجماع كالمداعبة والقبلة، وأنشد ابن عباس وهو محرم:


                                                                                                                                                                                                                                      859 - وهن يمشين بنا هميسا     إن يصدق الطير ننك لميسا

                                                                                                                                                                                                                                      فقيل له: رفثت، فقال: إنما الرفث عند النساء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كنتم تختانون" في محل رفع خبر لأن. و "تختانون" في محل نصب خبر لكان. قال أبو البقاء: "وكنتم هنا لفظها لفظ الماضي ومعناها المضي أيضا، والمعنى: أن الاختيان كان يقع منهم فتاب عليهم منه، وقيل: إنه أراد الاختيان في الاستقبال، وذكر "كان" ليحكي بها الحال كما تقول: إن فعلت كنت ظالما" وفي هذا الكلام نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      و "تختانون" تفتعلون من الخيانة، وعين الخيانة واو لقولهم: خان يخون، وفي الجمع: خونة، يقال: خان يخون خونا وخيانة، وهي ضد الأمانة، وتخونت الشيء تنقصته، قال زهير:


                                                                                                                                                                                                                                      860 - بآرزة الفقارة لم يخنها     قطاف في الركاب ولا خلاء

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: "والاختيان: من الخيانة كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدة" يعني من حيث إن الزيادة في اللفظ تنبئ عن زيادة في المعنى، كما قدمه في قوله الرحمن الرحيم. وقيل هنا: تختانون أنفسكم أي: [ ص: 295 ] تتعهدونها بإتيان النساء، وهذا يكون بمعنى التخويل، يقال: تخونه وتخوله بالنون واللام، بمعنى تعهده، إلا أن النون بدل من اللام، لأنه باللام أشهر.

                                                                                                                                                                                                                                      و "علم" إن كانت المتعدية لواحد بمعنى عرف، فتكون "أن" وما في حيزها سادة مسد مفعول واحد، وإن كانت المتعدية لاثنين كانت سادة مسد المفعولين على رأي سيبويه، ومسد أحدهما والآخر محذوف على مذهب الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "هن لباس لكم" لا محل له من الإعراب، لأنه بيان للإحلال فهو استئناف وتفسير. وقدم قوله: "هن لباس لكم" على "وأنتم لباس لهن" تنبيها على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها، ولأنه هو البادئ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شدة المخالطة كقوله - هو النابغة الجعدي -:


                                                                                                                                                                                                                                      861 - إذا ما الضجيع ثنى جيدها     تثنت عليه فكانت لباسا

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أيضا:


                                                                                                                                                                                                                                      862 - لبست أناسا فأفنيتهم     وأفنيت بعد أناس أناسا

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فالآن باشروهن" قد تقدم الكلام على "الآن". وفي وقوعه ظرفا للأمر تأويل، وذلك أنه للزمن الحاضر والأمر مستقبل أبدا، وتأويله ما قاله أبو البقاء قال: "والآن: حقيقته الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على [ ص: 296 ] الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، لأن قوله: "فالآن باشروهن" أي: فالوقت الذي كان يحرم عليكم فيه الجماع من الليل" وقيل: هذا كلام محمول على معناه، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم مباشرتهن، ودل على هذا المحذوف لفظ الأمر فالآن على حقيقته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "واتبعوا" من الاتباع، وتروى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة والحسن البصري. وفسروا "ما كتب الله" بليلة القدر، أي: اتبعوا ثوابها، قال الزمخشري: "وهو قريب من بدع التفاسير".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حتى يتبين" "حتى" هنا غاية لقوله: "كلوا واشربوا" بمعنى إلى، ويقال: تبين الشيء وأبان واستبان وبان كله بمعنى، وكلها تكون متعدية ولازمة، إلا "بان" فلازم ليس إلا. و "من الخيط" من لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محل نصب بـ "يتبين"، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الأسود.

                                                                                                                                                                                                                                      و "من الفجر" يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون تبعيضية فتتعلق أيضا بـ "يتبين"; لأن الخيط الأبيض وهو بعض الفجر وأوله، ولا يضر تعلق حرفين بلفظ واحد بعامل واحد لاختلاف معناهما. والثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير في الأبيض، أي: الخيط الذي هو أبيض كائنا من الفجر، وعلى هذا يجوز أن تكون "من" لبيان الجنس كأنه قيل: [ ص: 297 ] الخيط الأبيض الذي هو الفجر. والثالث: أن يكون تمييزا، وهو ليس بشيء، وإنما بين قوله "الخيط الأبيض" بقوله: "من الفجر"، ولم يبين الخيط الأسود فيقول: من الليل اكتفاء بذلك، وإنما ذكر هذا دون ذاك لأنه هو المنوط به الأحكام المذكورة من المباشرة والأكل والشرب.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا من أحسن التشبيهات حيث شبه بياض النهار بخيط أبيض، وسواد الليل بخيط أسود، حتى إنه لما ذكر عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فهم من الآية حقيقة الخيط تعجب منه، وقال: "إن وسادك لعريض" ويروى: "إنك لعريض القفا". وقد روي أن بعض الصحابة فعل كفعل عدي، ويروى أن بين قوله "الخيط الأبيض"" من الخيط الأسود" عاما كاملا في النزول. وهذا النوع من باب التشبيه من الاستعارة، لأن الاستعارة هي أن يطوى فيها ذكر المشبه، وهنا قد ذكر وهو قوله: "من الفجر"، ونظيره قولك: "رأيت أسدا من زيد" لو لم تذكر: "من زيد" لكان استعارة. ولكن التشبيه هنا أبلغ، لأن الاستعارة لا بد فيها من دلالة حالية، وهنا ليس ثم دلالة، ولذلك مكث بعض الصحابة يحمل ذلك على الحقيقة مدة، حتى نزل "من الفجر" فتركت الاستعارة وإن كانت أبلغ لما ذكرت لك. والفجر مصدر فجر يفجر أي: انشق.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلى الليل" فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بالإتمام فهو غاية له. والثاني: أنه في محل نصب على الحال من الصيام، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنا إلى الليل، و "إلى" إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 298 ] "وأنتم عاكفون" جملة حالية من فاعل "تباشروهن"، والمعنى: لا تباشروهن وقد نويتم الاعتكاف في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهن في المسجد بقيد الاعتكاف، لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      والعكوف: الإقامة والملازمة له، يقال: عكف بالفتح يعكف بالضم والكسر، وقد قرئ: "يعكفون على أصنام" بالوجهين وقال الفرزدق:


                                                                                                                                                                                                                                      863 - ترى حولهن المعتفين كأنهم     على صنم في الجاهلية عكف

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطرماح:


                                                                                                                                                                                                                                      864 - وظل بنات الليل حولي عكفا     عكوف البواكي بينهن صريع

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: الافتعال منه في الخير، والانفعال في الشر. وأما الاعتكاف في الشرع فهو إقامة مخصوصة بشرائط، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة. وقرأ قتادة: "عكفون" كأنه يقال: عاكف وعكف نحو بار وبر وراب ورب. وقرأ الأعمش: "في المسجد" بالإفراد كأنه يريد الجنس.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "تلك حدود الله" مبتدأ وخبر، واسم الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف لأنه شيء واحد، بل هو إشارة [ ص: 299 ] إلى ما تضمنته آية الصيام من أولها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمنت عدة أوامر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي، ثم جاء آخرها صريح النهي وهو: "ولا تباشروهن" فأطلق على الكل "حدودا" تغليبا للمنطوق به، واعتبارا بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر، فقيل فيها حدود، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل لأن المأمور به لا يقال فيه "فلا تقربوها".

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء: "دخول الفاء هنا عاطفة على شيء محذوف تقديره: "تنبهوا فلا تقربوها"، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدة كالتي في قوله تعالى:" وإياي فارهبون" على أحد القولين، لأنه كان ينبغي أن ينتصب "حدود الله" على الاشتغال، لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهي نحو: "زيدا فاضربه، وعمرا فلا تهنه" فلما أجمعت القراء هنا على الرفع علمنا أن هذه الجملة التي هي "فلا تقربوها" منقطعة عما قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      والحدود: جمع حد وهو المنع، ومنه قيل للبواب: حداد، لأنه يمنع من العبور. وحد الشيء منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحد مانع جامع أي: يمنع غير المحدود الدخول في المحدود. والنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الالتباس بالشيء، فلذلك جاءت الآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال هنا: "فلا تقربوها" وفي مواضع أخر: "فلا تعتدوها" ومثله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 300 ] "ومن يتعد حدود الله"" ويتعد حدوده" لأنه غلب هنا جهة النهي إذ هو المعقب بقوله: "تلك حدود الله" وما كان منهيا عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ، وأما الآيات الأخر فجاء "فلا تعتدوها" عقب بيان أحكام ذكرت قبل كالطلاق والعدة والإيلاء والحيض والمواريث، فناسب أن ينهى عن التعدي فيها، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كذلك يبين الله" الكاف في محل نصب: إما نعتا لمصدر محذوف، أي: بيانا مثل هذا البيان، أو حالا من المصدر المحذوف كما هو مذهب سيبويه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية