الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (196) قوله تعالى: والعمرة لله : الجمهور على نصب "العمرة" على العطف على ما قبلها و "لله" متعلق بأتموا، واللام لام المفعول من أجله. ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من الحج والعمرة، [ ص: 313 ] تقديره: أتموها كائنين لله. وقرأ علي وابن مسعود وزيد بن ثابت: "والعمرة" بالرفع على الابتداء، و "لله" الخبر، على أنها جملة مستأنفة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فما استيسر" ما موصولة بمعنى الذي، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وفيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها في محل نصب أي: فليهد أو فلينحر، وهذا مذهب ثعلب. والثاني: ويعزى للأخفش أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر. والثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب ما استيسر واستيسر هنا بمعنى يسر المجرد كصعب واستصعب وغني واستغنى، ويجوز أن يكون بمعنى تفعل نحو: تكبر واستكبر، وتعظم واستعظم. وقد تقدم ذلك في أول الكتاب.

                                                                                                                                                                                                                                      والحصر: المنع، ومنه قيل للملك: الحصير، لأنه ممنوع من الناس، وهل حصر وأحصر بمعنى أو بينهما فرق؟ خلاف بين أهل العلم. فقال الفراء والزجاج والشيباني: إنهما بمعنى، يقالان في المرض والعدو جميعا وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      873 - وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 314 ] وفرق بعضهم، فقال الزمخشري: يقال: أحصر فلان إذا معه أمر من خوف أو مرض أو عجز، قال تعالى: "الذين أحصروا في سبيل الله"، وقال ابن ميادة: "وما هجر ليلى أن تكون تباعدت"، وحصر إذا حبسه عدو أو سجن، هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء مثل: صده وأصده، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضا فإنه قال: "والمشهور من اللغة: أحصر بالمرض وحصر بالعدو. وعكس ابن فارس في "مجمله" فقال: "حصر بالمرض وأحصر بالعدو" وقال ثعلب: "حصر في الحبس أقوى من أحصر"، ويقال: حصر صدره أي: ضاق; ورجل حصر: لا يبوح بسره، قال جرير:


                                                                                                                                                                                                                                      874 - ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا     حصرا بسرك يا أميم حصورا

                                                                                                                                                                                                                                      والحصير معروف لامتناع بعضه ببعض، والحصير أيضا الملك كما تقدم لاحتجابه. قال لبيد:


                                                                                                                                                                                                                                      875 - ... ... ... ...     جن لدى باب الحصير قيام



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من الهدي" فيه وجهان: أحدهما: أن تكون "من" تبعيضية ويكون محلها النصب على الحال من الضمير المستتر في "استيسر" العائد على "ما" أي: حال كونه بعض الهدي. والثاني: أن تكون "من" لبيان الجنس فتتعلق بمحذوف أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 315 ] وفي الهدي قولان، أحدهما: أنه جمع هدية كجدي جمع جدية السرج. والثاني: أن يكون مصدرا واقعا موقع المفعول أي: المهدى، ولذلك يقع للأفراد والجمع. قال أبو عمرو بن العلاء: "لا أعرف لهذه اللفظة نظيرا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ مجاهد والزهري: "الهدي" بتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أن يكون جمع هدية كمطية ومطايا وركية وركايا. والثاني: أن يكون فعيلا بمعنى مفعول نحو قتيل بمعنى مقتول.

                                                                                                                                                                                                                                      و "محله" يجوز أن يكون ظرف مكان أو زمان، ولم يقرأ إلا بكسر الحاء فيما علمت إلا أنه يجوز لغة فتح حائه إذا كان مكانا. وفرق الكسائي بينهما، فقال: "المكسور هو الإحلال من الإحرام، والمفتوح هو مكان الحلول من الإحصار".

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: "منكم" فيه وجهان، أحدهما: أن يكون في محل نصب على الحال من "مريضا"; لأنه في الأصل صفة له، فلما قدم عليه انتصب حالا. وتكون "من" تبعيضية، أي: فمن كان مريضا منكم. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكون متعلقا بمريضا، قال الشيخ: "وهو لا يكاد يعقل". "ومن" يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أو به أذى" يجوز أن يكون هذا من باب عطف المفردات وأن يكون من باب عطف الجمل: أما الأول فيكون "به" هذا الجار والمجرور [ ص: 316 ] معطوفا على "مريضا" الذي هو خبر كان، فيكون في محل نصب. ويكون "أذى" مرفوعا به على سبيل الفاعلية، لأن الجار إذا اعتمد رفع الفاعل عند الكل، فيصير التقدير: فمن كان كائنا به أذى من رأسه. وأما الثاني فيكون "به" خبرا مقدما، ومحله على هذا رفع، وفي الوجه الأول كان نصبا، و "أذى" مبتدأ مؤخر، وتكون هذه في محل نصب لأنها عطف على "مريضا" الواقع خبرا لكان، فهي وإن كانت جملة لفظا فهي في محل مفرد، إذ المعطوف على المفرد مفرد، لا يقال: إنه عاد إلى عطف المفردات فيتحد الوجهان لوضوح الفرق. وأجازوا أن يكون "أذى" معطوفا على إضمار "كان" لدلالة "كان" الأولى عليها، وفي اسم "كان" المحذوفة حينئذ احتمالان، أحدهما: أن يكون ضمير "من" المتقدمة، فيكون "به" خبرا مقدما، و "أذى" مبتدأ مؤخرا، والجملة في محل نصب خبرا لكان المضمرة. والثاني: أن يكون "أذى"، و "به" خبرها، قدم على اسمها.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء أن يكون "أو به أذى" معطوفا على "كان"، وأعرب "به" خبرا مقدما متعلقا بالاستقرار، و "أذى" مبتدأ مؤخرا، والهاء في "به" عائدة على من. وهذا الذي قاله خطأه الشيخ فيه، قال: "لأنه كان قد قدم أن "من" شرطية، وعلى هذا التقدير يكون خطأ، لأن المعطوف على جملة الشرط شرط والجملة الشرطية لا تكون إلا فعلية، وهذه كما ترى جملة اسمية على ما قرره. فكيف تكون معطوفة على جملة الشرط التي يجب أن تكون فعلية؟ فإن قيل: فإذا جعلنا "من" موصولة فهل يصح ما قاله من كون "به أذى" معطوفا على "كان" ؟ فالجواب أنه لا يصح أيضا; لأن "من" الموصولة إذا [ ص: 317 ] ضمنت معنى اسم الشرط لزم أن تكون صلتها جملة فعلية أو ما هي في قوتها". والباء في "به" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون للإلصاق، والثاني: أن تكون ظرفية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من رأسه" فيه وجهان، أحدهما: أنه في محل رفع لأنه صفة لأذى، أي أذى كائن من رأسه. والثاني: أن يتعلق بما يتعلق "به" من الاستقرار، وعلى كلا التقديرين تكون "من" لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ففدية" في رفعها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون مبتدأ والخبر محذوف، أي: فعليه فدية. والثاني: أن تكون خبر مبتدأ محذوف أي: فالواجب عليه فدية. والثالث: أن يكون فاعل فعل مقدر أي: فتجب عليه فدية. وقرئ شاذا: "ففدية" نصبا، وهي على إضمار فعل أي: فليفد فدية. و "من صيام" في محل رفع أو نصب على حسب القراءتين صفة لـ "فدية"، فيتعلق بمحذوف، و "أو" للتخيير، ولا بد من حذف فعل قبل الفاء تقديره: فحلق ففدية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن والزهري "نسك" بسكون السين، وهو تخفيف المضموم. والأذى مصدر بمعنى الإيذاء وهو الألم، يقال: آذاه يؤذيه إيذاء وأذى، فكأن الأذى مصدر على حذف الزوائد أو اسم مصدر كالعطاء اسم للإعطاء، والنبات للإنبات.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي النسك قولان، أحدهما: أنه مصدر يقال: نسك ينسك نسكا ونسكا بالضم، والإسكان كما قرأه الحسن. والثاني: أنه جمع نسيكة، قال ابن الأعرابي: "النسيكة في الأصل سبيكة الفضة، وتسمى العبادة بها لأن العبادة مشبهة سبيكة الفضة في صفائها وخلوصها من الآثام، وكذلك سمي العابد ناسكا، وقيل للذبيحة "نسيكة" لذلك".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 318 ] قوله: "فإذا أمنتم" الفاء عاطفة على ما تقدم، و "إذا" منصوبة بالاستقرار المحذوف; لأن التقدير: فعليه ما استيسر، أي. فاستقر عليه ما استيسر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فمن تمتع" الفاء جواب الشرط بإذا، والفاء في قوله: "فما استيسر" جواب الشرط الثاني. ولا نعلم خلافا أنه يقع الشرط وجوابه جوابا لشرط آخر مع الفاء. وقد تقدم الكلام على "فما استيسر" فأغنى عن إعادته.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فصيام" في رفعه الأوجه الثلاثة المذكورة في قوله: "ففدية".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "فصيام" نصبا، على تقدير فليصم، وأضيف المصدر إلى ظرفه معنى، وهو في اللفظ مفعول به على السعة. و "في الحج" متعلق بـ(صيام). وقدر بعضهم مضافا أي: في وقت الحج. ومنهم من قدر مضافين، أي: وقت أفعال الحج، ومنهم من قدره ظرف مكان أي: مكان الحج، ويترتب على ذلك أحكام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وسبعة" الجمهور على جر "سبعة" عطفا على ثلاثة. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: "وسبعة" بالنصب. وفيها تخريجان، أحدهما: قاله الزمخشري وهو أن يكون عطفا على محل "ثلاثة" كأنه قيل: فصيام ثلاثة، كقوله: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما"، يعني أن المضاف إليه المصدر منصوب معنى بدليل ظهور عمل المنون النصب في "يتيما". والثاني: أن ينتصب بفعل محذوف تقديره: "فليصوموا"، قال الشيخ: [ ص: 319 ] "وهذا متعين، لأن العطف على الموضع يشترط فيه وجود المحرز" يعني على مذهب سيبويه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إذا رجعتم" منصوب بصيام أيضا، وهي هنا لمحض الظرف، وليس فيها معنى الشرط. لا يقال: يلزم أن يعمل عامل واحد في ظرفي زمان، لأن ذلك جائز مع العطف والبدل، وهنا يكون عطف شيئين على شيئين، فعطف "سبعة" على "ثلاثة" وعطف "إذا" على "في الحج".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: "رجعتم" شيئان: أحدهما التفات، والآخر الحمل على المعنى، أما الالتفات: فإن قبله "فمن تمتع فمن لم يجد" فجاء بضمير الغيبة عائدا على "من"، فلو سيق هذا على نظم الأول لقيل: "إذا رجع" بضمير الغيبة. وأما الحمل: فلأنه أتى بضمير جمع اعتبارا بمعنى "من"، ولو راعى اللفظ لأفرد، فقال: "رجع".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "تلك عشرة" مبتدأ وخبر، والمشار إليه هي السبعة والثلاثة، ومميز السبعة والعشرة محذوف للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث في العدد مع حذف التمييز، وهو أحسن الاستعمالين، ويجوز إسقاط التاء حينئذ، وفي الحديث: "وأتبعه بست من شوال"، وحكى الكسائي: "صمنا من الشهر خمسا".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: "تلك عشرة"- مع أن من المعلوم أن الثلاثة والسبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني، منها قول ابن عرفة: "العرب إذا ذكرت [ ص: 320 ] عددين، فمذهبهم أن يجملوهما"، وحسن هذا القول الزمخشري بأن قال: "فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما يعلم تفصيلا، ليحتاط به من جهتين فيتأكد العلم، وفي أمثالهم "علمان خير من علم". قال ابن عرفة: "وإنما تفعل العرب ذلك لأنها قليلة المعرفة بالحساب، وقد جاء: "لا نحسب ولا نكتب"، وورد ذلك في أشعارهم، قال النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      876 - توهمت آيات لها فعرفتها     لستة أيام وذا العام سابع

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفرزدق:


                                                                                                                                                                                                                                      877 - ثلاث واثنتان فهن خمس     وسادسة تميل إلى شمام

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      878 - ثلاث بالغداة فهن حسبي     وست حين يدركني العشاء
                                                                                                                                                                                                                                      فذلك تسعة في اليوم ريي     وشرب المرء فوق الري داء

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      879 - فسرت إليهم عشرين شهرا     وأربعة فذلك حجتان

                                                                                                                                                                                                                                      وعن المبرد: "فتلك عشرة: ثلاثة في الحج وسبعة إذا [رجعتم] فقدم وأخر"، ومثله لا يصح عنه. وقال ابن الباذش: "جيء بعشرة توطئة للخبر بعدها، لا أنها هي الخبر المستقل بفائدة الإسناد كما تقول: "زيد رجل صالح" [ ص: 321 ] يعني أن المقصود الإخبار بالصلاح، وجيء برجل توطئة، إذ معلوم أنه رجل. وقال الزجاج "جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة; لأن الواو قد تقوم مقام أو، ومنه: "مثنى وثلاث ورباع" فأزال احتمال التخيير، وهذا إنما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يقيمون الواو مقام أو. وقال الزمخشري: "الواو قد تجيء للإباحة في قولك: "جالس الحسن وابن سيرين" ألا ترى أنه لو جالسهما معا أو أحدهما كان ممتثلا ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة" قال الشيخ: "وفيه نظر لأنه لا تتوهم الإباحة، فإن السياق سياق إيجاب، فهو ينافي الإباحة، ولا ينافي التخيير، فإن التخيير يكون في الواجبات، وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ذلك لمن"" ذلك" مبتدأ، والجار بعده الخبر. وفي اللام قولان، أحدهما: أنها على بابها، أي ذلك لازم لمن. والثاني: أنها بمعنى على، كقوله: "أولئك عليهم لعنة الله"، ولا حاجة إلى هذا. و "من" يجوز أن تكون موصولة وموصوفة. و "حاضري" خبر "يكن" وحذفت نونه للإضافة و "شديد العقاب" من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها، وقد تقدم أن الإضافة لا تكون إلا من نصب، والنصب والإضافة أبلغ من الرفع; لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ثم ذكر من هي له حقيقة، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة، دون إسناد إلى موصوف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية