الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (224) قوله تعالى: لأيمانكم أن تبروا : هذه اللام تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون مقوية لتعدية "عرضة" تقديره: ولا تجعلوا الله معدا ومرصدا لحلفكم. والثاني: أن تكون للتعليل، فتتعلق بفعل النهي أي: لا تجعلوه عرضة لأجل أيمانكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن تبروا" فيه ستة أوجه، أحدها وهو قول الزجاج والتبريزي وغيرهما، أنها في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا خير لكم من أن تجعلوه عرضة لأيمانكم، أو بركم [ ص: 426 ] أولى وأمثل، وهذا ضعيف; لأنه يؤدي إلى انقطاع هذه الجملة عما قبلها، والظاهر تعلقها به.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها في محل نصب على أنها مفعول من أجله، وهذا قول الجمهور، ثم اختلفوا في تقديره، فقيل: إرادة أن تبروا، وقيل: كراهة أن تبروا، قاله المهدوي، وقيل: لترك أن تبروا، قال المبرد، وقيل: لئلا تبروا: قاله أبو عبيدة والطبري، وأنشدا:


                                                                                                                                                                                                                                      954 -... فلا والله تهبط تلعة ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لا تهبط، فحذف "لا" ومثله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي: لئلا تضلوا. وتقدير الإرادة هو الوجه، وذلك أن التقادير التي ذكرتها بعد تقدير الإرادة لا يظهر معناها، لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر، ولا ينعقد منهما شرط وجزاء، لو قلت في معنى هذا النهي وعلته: "إن حلفت بالله بررت" لم يصح، بخلاف تقدير الإرادة، فإنه يعلل امتناع الحلف بإرادة وجود البر، وينعقد منهما شرط وجزاء، تقول: إن حلفت لم تبر وإن لم تحلف بررت.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث، أنها على إسقاط حرف الجر، أي: في أن تبروا، وحينئذ يجيء فيها القولان: قول سيبويه والفراء، فتكون في محل نصب، وقول الخليل والكسائي فتكون في محل جر. وقال الزمخشري: "ويتعلق "أن [ ص: 427 ] تبروا" بالفعل أو بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم عرضة لأن تبروا". قال الشيخ: "وهذا التقدير لا يصح للفصل بين العامل ومعموله بأجنبي، وذلك أن "لأيمانكم" عنده متعلق بتجعلوا، فوقع فاصلا بين "عرضة" التي هي العامل وبين "أن تبروا" الذي هو في أن تبروا، وهو أجنبي منهما. ونظير ما أجازه أن تقول: "امرر واضرب بزيد هندا، وهو غير جائز ونصوا على أنه لا يجوز: "جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق" أي رجل ذو فرس أبلق راكب، لما فيه من الفصل بالأجنبي.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنها في محل جر عطف بيان لأيمانكم، أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح. قال الشيخ: "وهو ضعيف لما فيه من جعل الأيمان بمعنى المحلوف عليه"، والظاهر أنها هي الأقسام التي يقسم بها، ولا حاجة إلى تأويلها بما ذكر من كونها بمعنى المحلوف عليه إذ لم تدع إليه ضرورة، وهذا بخلاف الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها" فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن تكون في محل جر على البدل من "لأيمانكم" بالتأويل [ ص: 428 ] الذي ذكره الزمخشري، وهذا أولى من وجه عطف البيان، فإن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: - وهو الظاهر - أنها على إسقاط حرف الجر لا على ذلك الوجه المتقدم، بل الحرف غير الحرف، والمتعلق غير المتعلق، والتقدير: "لإقسامكم على أن تبروا" فـ "على" متعلق بإقسامكم، والمعنى: ولا تجعلوا الله معرضا ومتبدلا لإقسامكم على البر والتقوى والإصلاح التي هي أوصاف جميلة خوفا من الحنث، فكيف بالإقسام على ما ليس فيه بر ولا تقوى !!!.

                                                                                                                                                                                                                                      والعرضة في اشتقاقها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها فعلة بمعنى مفعول من العرض كالقطبة والغرفة. ومعنى الآية على هذا: لا تجعلوه معرضا للحلف من قولهم: فلان عرضة لكذا أي: معرض، قال كعب:


                                                                                                                                                                                                                                      955 - من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت     عرضتها طامس الأعلام مجهول

                                                                                                                                                                                                                                      وقال حبيب:


                                                                                                                                                                                                                                      956 - متى كان سمعي عرضة للوائم     وكيف صفت للعاذلين عزائمي

                                                                                                                                                                                                                                      وقال حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      957 - ... ... ... ...     هم الأنصار عرضتها اللقاء



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 429 ] وقال أوس:


                                                                                                                                                                                                                                      958 - وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها     لرحلي وفيها هزة وتقاذف

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا كله بمعنى معرض لكذا.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها اسم ما تعرضه على الشيء، فيكون من: عرض العود على الإناء فيعترض دونه، ويصير حاجزا ومانعا، ومعنى الآية على هذا النهي عن أن يحلفوا بالله على أنهم لا يبرون ولا يتقون ويقولون: لا نقدر أن نفعل ذلك لأجل حلفنا.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنها من العرضة وهي القوة، يقال: "جمل عرضة للسفر" أي قوي عليه، وقال ابن الزبير:


                                                                                                                                                                                                                                      959 - فهذي لأيام الحروب وهذه     للهوى وهذي عرضة لارتحالنا

                                                                                                                                                                                                                                      أي قوة وعدة، ومعنى الآية على هذا: لا تجعلوا اليمين بالله تعالى قوة لأنفسكم في الامتناع عن البر.

                                                                                                                                                                                                                                      والأيمان: جمع يمين، وأصلها العضو، واستعملت في الحلف مجازا لما جرت عادة المتعاقدين بتصافح أيمانهم. واشتقاقها من اليمن. واليمين أيضا اسم للجهة التي تكون من ناحية هذا العضو فينتصب على الظرف، وكذلك اليسار تقول: زيد يمين عمرو وبكر يساره. وتجمع اليمين على أيمن وأيمان. وهل المراد بالأيمان في الآية القسم نفسه أو المقسم عليه؟ قولان، الأول أولى. وقد تقدم تجويز أن يكون المراد به المحلوف عليه واستدلاله بالحديث والجواب عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 430 ] قوله: "والله سميع عليم" ختم بهاتين الصفتين لتقدم مناسبتهما، فإن الحلف متعلق بالسمع، وإرادة البر من فعل القلب متعلقة بالعلم. وقدم السميع لتقدم متعلقه وهو الحلف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية