الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (180) قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر : "كتب" مبني للمفعول وحذف الفاعل للعلم به - وهو الله تعالى - وللاختصار. وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون "الوصية" أي: كتب عليكم الوصية، وجاز تذكير الفعل لوجهين، أحدهما: كون القائم مقام الفاعل مؤنثا مجازيا، والثاني: الفصل بينه وبين مرفوعه. والثاني: أنه الإيصاء المدلول عليه بقوله: "الوصية للوالدين" أي: كتب هو أي: الإيصاء.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 259 ] والثالث: أنه الجار والمجرور، وهذا يتجه على رأي الأخفش والكوفيين. و "عليكم" في محل رفع على هذا القول، وفي محل نصب على القولين الأولين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إذا حضر" العامل في "إذا"" كتب" على أنها ظرف محض، وليس متضمنا للشرط، كأنه قيل: كتب عليكم الوصية وقت حضور الموت، ولا يجوز أن يكون العامل فيه لفظ "الوصية" لأنها مصدر، ومعمول المصدر لا يتقدم عليه لانحلاله لموصول وصلة إلا على مذهب من يرى التوسع في الظرف وعديله، وهو أبو الحسن، فإنه لا يمنع ذلك، فيكون التقدير: كتب عليهم أن توصوا وقت حضور الموت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون "كتب" هو العامل في "إذا"، والمعنى: توجه عليكم إيجاب الله ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، و "الوصية" مفعول لم يسم فاعله بكتب. وجواب الشرطين "إن" و "إذا" مقدر يدل عليه ما تقدم من قوله كتب". قال الشيخ: "وفي هذا تناقض لأنه جعل العامل في "إذا" كتب، وذلك يستلزم أن يكون "إذا" ظرفا محضا غير متضمن للشرط، وهذا يناقض قوله: "وجواب "إذا" و "إن" محذوف; لأن إذا الشرطية لا يعمل فيها إلا جوابها أو فعلها الشرطي، و "كتب" ليس أحدهما، فإن قيل: قوم يجيزون تقديم جواب الشرط فيكون "كتب" هو الجواب، ولكنه تقدم، وهو عامل في "إذا" فيكون ابن عطية يقول بهذا القول. فالجواب: أن ذلك لا يجوز، لأنه صرح بأن جوابها محذوف مدلول عليه بكتب، ولم يجعل كتب هو الجواب".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 260 ] ويجوز أن يكون العامل في "إذا" الإيصاء المفهوم من لفظ "الوصية" وهو القائم مقام الفاعل في "كتب" كما تقدم. قال ابن عطية في هذا الوجه: "ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في "إذا" وترتفع "الوصية"، بالابتداء، وفيه جواب الشرطين على [نحو] ما أنشده سيبويه:

                                                                                                                                                                                                                                      50829 - من يفعل الصالحات الله يحفظه ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      ويكون رفعها بالابتداء، أي: فعليه الوصية بتقدير الفاء فقط، كأنه قال فالوصية للوالدين". وناقشه الشيخ من وجوه، أحدها: أنه متناقض من حيث إنه إذا جعل "إذا" معمولة للإيصاء المقدر تمحضت للظرفية فكيف يقدر لها جواب كما تقدم تحريره؟ والثاني: أن هذا الإيصاء: إما أن تقدر لفظه محذوفا أو تضمره، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل لأن المصدر شرط إعماله ألا يحذف ولا يضمر عند البصريين، وأيضا فهو قائم مقام الفاعل فلا يحذف. الثالث: قوله "جواب الشرطين" والشيء الواحد لا يكون جوابا لاثنين، بل جواب كل واحد مستقل بقدره. الرابع: جعله حذف الفاء جائزا في القرآن، وهذا نص سيبويه على أنه لا يجوز إلا ضرورة وأنشد:

                                                                                                                                                                                                                                      من يفعل الحسنات الله يشكرها     والشر بالشر عند الله سيان

                                                                                                                                                                                                                                      وإنشاده "من يفعل الصالحات الله يحفظه" يجوز أن يكون رواية، [ ص: 261 ] إلا أن سيبويه لم ينشده كذا بل كما تقدم والمبرد روي عنه أنه لا يجيز حذف الفاء مطلقا، لا في ضرورة ولا غيرها، ويرويه: "من يفعل الخير فالرحمن يشكره"، ورد الناس عليه بأن هذه ليست حجة على رواية سيبويه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون "إذا" شرطية، فيكون جوابها وجواب "إن" محذوفين. وتحقيقه: أن جواب "إن" مقدر، تقديره: "كتب الوصية على أحدكم إذا حضره الموت إن ترك خيرا فليوص"، فقوله: "فليوص" جواب لإن، حذف لدلالة الكلام عليه، ويكون هذا الجواب المقدر دالا على جواب "إذا" فيكون المحذوف دالا على محذوف مثله. وهذا أولى من قول من يقول: إن الشرط الثاني جواب الأول، وحذف جواب الثاني، وأولى أيضا من تقدير من يقدره من معنى "كتب" ماضي المعنى، إلا أن يؤوله بمعنى: يتوجه عليكم الكتب إن ترك خيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "الوصية" فيه ثلاثة أوجه، [أحدها:] أن يكون مبتدأ وخبره "للوالدين". والثاني: أنه مفعول "كتب" وقد تقدم. الثالث: أنه مبتدأ خبره محذوف أي: فعليه الوصية، وهذا عند من يجيز حذف فاء الجواب وهو الأخفش وهو محجوج بنقل سيبويه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالمعروف" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بنفس "الوصية"، والثاني أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الوصية، أي: حال كونها ملتبسة بالمعروف لا بالجور.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حقا" في نصبه ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون نعتا لمصدر [ ص: 262 ] محذوف، وذلك المصدر المحذوف: إما مصدر "كتب" أو مصدر "أوصى" أي كتبا أو إيصاء حقا. الثاني: أنه حال من المصدر المعرف المحذوف: [إما] مصدر "كتب" أو "أوصى" كما تقدم. الثالث: أن ينتصب على أنه مؤكد لمضمون الجملة، فيكون عامله محذوفا، أي: حق ذلك حقا، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وقال الشيخ: "وهذا تأباه القواعد النحوية، لأن ظاهر قوله: "على المتقين" أن يتعلق بـ "حقا" أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين لا يجوز. أما الأول فلأن المصدر المؤكد لا يعمل، وأما الثاني فلأن [الوصف يخرجه عن التأكيد]، وهذا لا يلزمهم فإنهم والحالة هذه لا يقولون: إن "على المتقين" متعلق به. وقد نص على ذلك أبو البقاء فإنه قال: "وقيل هو متعلق بنفس المصدر وهو ضعيف، لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وإنما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف إذ ناب عنه كقولك: ضربا زيدا، أي: اضرب" إلا أنه جعله صفة لحق، فهذا يرد عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المعربين: "إنه مؤكد لما تضمنه معنى "المتقين" كأنه قيل: على المتقين حقا، كقوله: "أولئك هم المؤمنون حقا". وهذا ضعيف لتقدمه على عامله الموصول، ولأنه لا يتبادر إلى الذهن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 263 ] قال الشيخ: "والأولى عندي أن يكون مصدرا من معنى "كتب" لأن معنى "كتب الوصية" أي: حقت ووجبت، فهو مصدر على غير الصدر نحو: قعدت جلوسا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية