الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (126) قوله تعالى: اجعل هذا بلدا آمنا : الجعل هنا بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين فـ "هذا" مفعول أول و "بلدا" مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد أو هذا المكان. و "آمنا" صفة أي ذا أمن نحو: "عيشة راضية" أو آمنا من فيه نحو: ليلة نائم. والبلد معروف وفي تسميته قولان، أحدهما: أنه مأخوذ من البلد. والبلد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بلدتها إذا [ ص: 109 ] بركت أي: صدرها، والبلد صدر القرى فسمي بذلك. والثاني: أن البلد في الأصل الأثر ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه، وقيل لبركة البعير "بلدة" لتأثيرها في الأرض إذا برك قال:


                                                                                                                                                                                                                                      719 - أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من آمن" بدل بعض من كل وهو "أهله" ولذلك عاد فيه ضمير على المبدل منه، و "من" في "من الثمرات" للتبعيض. وقيل: للبيان، وليس بشيء إذ لم يتقدم مبهم يبين بها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ومن كفر فأمتعه" يجوز في "من" ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون موصولة، وفي محلها حينئذ وجهان، أحدهما: أنها في محل نصب بفعل محذوف تقديره، قال الله وأرزق من كفر، ويكون "فأمتعه" معطوفا على هذا الفعل المقدر. والثاني من الوجهين: أن يكون في محل رفع بالابتداء و "فأمتعه" الخبر، دخلت الفاء في الخبر تشبيها له بالشرط، وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا والرد عليه. الثاني من الثلاثة الأوجه: أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والحكم فيها ما تقدم من كونها في محل نصب أو رفع. الثالث: أن تكون شرطية ومحلها الرفع على الابتداء فقط، و "فأمتعه" جواب الشرط.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجوز في "من" في جميع وجوهها أن تكون منصوبة على الاشتغال، أما إذا كانت شرطا فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء، وفعل الشرط هنا غير ناصب لضميرها بل رافعه، وأما إذا كانت موصولة فلأن [ ص: 110 ] الخبر الذي هو "فأمتعه" شبيه بالجزاء ولذلك دخلته الفاء، فكما أن الجزاء لا يفسر عاملا فما أشبهه أولى بذلك، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر. وقال أبو البقاء: "لا يجوز أن تكون "من" مبتدأ و "فأمتعه" الخبر، لأن "الذي" لا تدخل الفاء في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقا بالصلة نحو: الذي يأتيني فله درهم، والكفر لا يستحق به التمتع، فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو [جعلت] الخبر محذوفا و "فأمتعه" دليلا عليه جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون "من" شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن كفر أرزق، و "من" على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها بل فعل الشرط". انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أما قوله: "لأن الكفر لا يستحق به التمتع" فليس بمسلم، بل التمتع القليل والمصير إلى النار مستحقان بالكفر، وأيضا فإن التمتع إن سلمنا أنه ليس مستحقا بالكفر، ولكن قد عطف عليه ما هو مستحق به وهو المصير إلى النار فناسب ذلك أن يقعا جميعا خبرا، وأيضا فقد ناقض كلامه لأنه جوز فيها أن تكون شرطية، وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه فكذلك الخبر المشبه به. وأما تجويزه زيادة الفاء وحذف الخبر أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها. وقرئ: أمتعه مخففا من أمتع يمتع وهي قراءة ابن عامر، وفأمتعه بسكون العين وفيها وجهان: أحدهما: أنه تخفيف كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      720 - فاليوم أشرب غير مستحقب      . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      . [ ص: 111 ] والثاني: أن الفاء زائدة وهو جواب الشرط فلذلك جزم بالسكون. وقرأ ابن عباس ومجاهد "فأمتعه قليلا ثم أضطره" على صيغة الأمر فيهما، ووجهها أن يكون الضمير في "قال" لإبراهيم، يعني سأل ربه ذلك، و "من" على هذه القراءة يجوز أن تكون مبتدأ وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخرا عنها لأن أداة الشرط لها صدر الكلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: "ومن كفر" عطف على "من آمن" كما عطف "ومن ذريتي" على الكاف في "جاعلك". قال الشيخ: أما عطف "من كفر" على "من آمن" فلا يصح لأنه يتنافى تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل، و "من آمن" العامل فيه فعل الأمر وهو العامل في "ومن كفر"، وإذا قدرته أمرا تنافى مع قوله "فأمتعه" لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع وإلجائهم إليه تعالى وأن كلا من الفعلين تضمن ضميرا، وذلك لا يجوز إلا على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير الله تعالى أي: قال إبراهيم وارزق من كفر، فقال الله أمتعه قليلا ثم اضطره، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على "من" كما عطف "ومن ذريتي" على الكاف في "جاعلك" فقال: "فإن قلت لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم، وأما الرزق فربما يكون استدراجا، والمعنى: قال وأرزق من كفر [ ص: 112 ] فأمتعه "فظاهر قوله "والمعنى قال" أن الضمير في "قال" لله تعالى، وأن "من كفر" منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم".

                                                                                                                                                                                                                                      و "قليلا" نعت لمصدر محذوف أو زمان، وقد تقدم له نظائر واختيار سيبويه فيه. وقرأ الجمهور: "أضطره" خبرا. وقرأ يحيى بن وثاب: "إضطره" بكسر الهمزة، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال: إخال. وقرأ ابن محيصن: "أطره" بإدغام الضاد في الطاء نحو: اطجع في اضطجع، وهي مرذولة لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف: ضم شغر نحو: اطجع في اضطجع [قاله الزمخشري، وفيه نظر، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الداني اللام في "يغفر لكم"، والضاد في الشين: "لبعض شأنهم"، والشين في السين: "العرش سبيلا"، وأدغم الكسائي الفاء في الباء: "نخسف بهم"، وحكى سيبويه أن "مضجعا" أكثر فدل على أن "مطجعا" كثير] . وقرأ يزيد بن أبي حبيب: "أضطره" بضم الطاء كأنه للإتباع. وقرأ أبي: "فنمتعه ثم نضطره" بالنون.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 113 ] واضطر افتعل من الضر، وأصله: اضتر فأبدلت التاء طاء لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعد، وعليه جاء التنزيل، وقال:


                                                                                                                                                                                                                                      721 - اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      والاضطرار: الإلجاء والإلزاز إلى الأمر المكروه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وبئس المصير" "المصير" فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي: النار. ومصير: مفعل من صار يصير، وهو صالح للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه الفتح لأن ما كسر عين مضارعه فقياس ظرفيه الكسر ومصدره الفتح . ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب، أحدها: أنه كالصحيح وقد تقدم. والثاني: أنه مخير فيه. والثالث: أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدى، فإن كان "المصير" في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقا، والتقدير: وبئس المصير النار كما تقدم، وإن كان مصدرا على رأي من أجازه فالتقدير: وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النار.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية