الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (208) قوله تعالى: السلم : قرأ هنا "السلم" بالفتح نافع والكسائي وابن كثير، والباقون بالكسر، وأما التي في الأنفال فلم يقرأها بالكسر إلا أبو بكر وحده عن عاصم، والتي في القتال فلم يقرأها بالكسر إلا حمزة وأبو بكر أيضا، وسيأتي. فقيل: هما بمعنى وهو الصلح، ويذكر ويؤنث، قال تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، وحكوا: "بنو فلان سلم وسلم"، وأصله من الاستسلام وهو الانقياد، ويطلق على الإسلام، قاله الكسائي وجماعة، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      906 - دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 359 ] ينشد بالكسر، وقال آخر في المفتوح:


                                                                                                                                                                                                                                      907 - شرائع السلم قد بانت معالمها     فما يرى الكفر إلا من به خبل

                                                                                                                                                                                                                                      فالسلم والسلم في هذين البيتين بمعنى الإسلام، إلا أن الفتح فيما هو بمعنى الإسلام قليل. وقرئ "السلم" بفتحهما، وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكسر الإسلام وبالفتح الصلح.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كافة" منصوب على الحال، وفي صاحبها ثلاثة أقوال، أحدها: وهو الأظهر أنه الفاعل في "ادخلوا" والمعنى: ادخلوا السلم جميعا. وهذه حال تؤكد معنى العموم، فإن قولك: "قام القوم كافة" بمنزلة: قاموا كلهم. والثاني: أنه "السلم"، قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: "ويجوز أن تكون "كافة" حالا من "السلم" لأنها تؤنث كما تؤنث كما تؤنث الحرب، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      908 - السلم تأخذ منها ما رضيت به     والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

                                                                                                                                                                                                                                      على أن المؤمنين أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها، ولا يدخلوا في طاعة دون طاعة، قال الشيخ: "تعليله كون "كافة" حالا من "السلم" بقوله: "لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب" ليس بشيء لأن التاء في "كافة" ليست للتأنيث، وإن كان أصلها أن تدل عليه، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى [ ص: 360 ] جميع وكل، كما صار قاطبة وعامة إذا كان حالا نقلا محضا. فإذا قلت: "قام الناس كافة وقاطبة" لم يدل شيء من ذلك على التأنيث، كما لا يدل عليه "كل" و "جميع".

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن يكون صاحب الحال هما جميعا، أعني فاعل "ادخلوا" و "السلم" فتكون حالا من شيئين. وهذا ما أجازه ابن عطية فإنه قال: "وتستغرق"" كافة" حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله: "فأتت به قومها تحمله". ثم قال بعد كلام: "وكافة معناه جميعا، فالمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "نحو قوله: تحمله" يعني أن "تحمله" حال من فاعل "أتت" ومن الهاء في "به". قال الشيخ: "هذا المثال ليس مطابقا للحال من شيئين لأن لفظ "تحمله" لا يحتمل شيئين، ولا تقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين، وجعل تلك الحال خبرا عنهما، فمتى صح ذلك صحت الحال نحو:


                                                                                                                                                                                                                                      909 – وعلقت سلمى وهي ذات موصد     ولم يبد للأتراب من ثديها حجم


                                                                                                                                                                                                                                      صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا     إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 361 ] فصغيرين حال من فاعل "علقت" ومن "سلمى" لأنك لو قلت: أنا وسلمى صغيران [لصح]، ومثله قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      910 - خرجت بها نمشي تجر وراءنا     على أثرينا ذيل مرط مرحل

                                                                                                                                                                                                                                      فنمشي حال من فاعل "خرجت" ومن "ها" في "بها"، لأنك لو قلت: "أنا وهي نمشي" لصح، ولذلك أعرب المعربون "نمشي" حالا منهما كما تقدم، و "تجر" حالا من "ها" في "بها" فقط، لأنه لا يصلح أن تجعل "تجر" خبرا عنهما، لو قلت: "أنا وهي تجر" لم يصح فكذلك يتقدر بمفرد وهو "جارة" وأنت لو أخبرت به عن اثنين لم يصح فكذلك "تحمله" لا يصلح أن يكون خبرا عن اثنين، فلا يصح أن يكون حالا منهما، وأما "كافة" فإنها بمعنى "جميع"، و "جميع" يصح فيها ذلك، لا يقال: "كافة" لا يصح وقوعها خبرا لو قلت: "الزيدون، والعمرون كافة" لم يجز، فلذلك لا تقع حالا على ما قررت; لأن ذلك إنما هو بسبب التزام نصب "كافة" على الحال، وأنها لا تتصرف لا من مانع معنوي، بدليل أن مرادفها وهو "جميع" و "كل" يخبر به، فالعارض المانع لـ "كافة" من التصرف لا يضر، وقوله: "الجماعة التي تكف مخالفيها" يعني أنها في الأصل كذلك، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكل".

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن أصل "كافة" اسم فاعل من كف يكف أي منع، ومنه: "كف الإنسان"، لأنها تمنع ما يقتضيه، و "كفة الميزان" لجمعها الموزون، والكفة بالضم لكل مستطيل، وبالكسر لكل مستدير. وقيل: "كافة" مصدر [ ص: 362 ] كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مما لزم نصبهما على الحال فإخراجهما عن ذلك لحن.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية