الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (203) قوله تعالى: معدودات : صفة لأيام، وقد تقدم أن صفة ما لا يعقل يطرد جمعها بالألف والتاء. وقد طول أبو البقاء هنا بسؤال وجواب، أما السؤال فقال: إن قيل "الأيام" واحدها "يوم" و "المعدودات" واحدتها "معدودة"، واليوم لا يوصف بمعدودة لأن الصفة هنا مؤنثة والموصوف مذكر، وإنما الوجه أن يقال: "أيام معدودة" فتصف الجمع بالمؤنث، فالجواب أنه أجرى "معدودات" على لفظ أيام، وقابل الجمع بالجمع مجازا، والأصل معدودة، كما قال: "لن تمسنا النار إلا أياما [ ص: 344 ] معدودة"، ولو قيل: إن الأيام تشتمل على الساعات، والساعة مؤنثة فجاء الجمع على معنى ساعات الأيام، وفيه تنبيه على الأمر بالذكر في كل ساعات هذه الأيام أو في معظمها لكان جوابا سديدا. ونظير ذلك الشهر والصيف والشتاء فإنها يجاب بها عن كم، [وكم] إنما يجاب عنها بالعدد، وألفاظ هذه الأشياء ليست عددا وإنما هي أسماء المعدودات فكانت جوابا من هذا الوجه" وفي هذا السؤال والجواب تطويل من غير فائدة، وقوله "مفرد معدودات معدودة بالتأنيث" ممنوع بل مفردها "معدود" بالتذكير، ولا يضر جمعه بالألف والتاء، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد، ألا ترى إلى قولهم: حمامات وسجلات وسرادقات.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فمن تعجل في يومين"" من" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون شرطية، فـ "تعجل" في محل جزم، والفاء في قوله: "فلا" جواب الشرط، والفاء وما في حيزها في محل جزم أيضا على الجواب. والثاني: أنها موصولة لا فلا محل لتعجل لوقوعه صلة، ولفظه ماض ومعناه يحتمل المضي والاستقبال; لأن كل ما وقع صلة فهذا حكمه. والفاء في "فلا" زائدة في الخبر، وهي وما بعدها في محل رفع خبرا للمبتدأ. و "في يومين" متعلق بتعجل، ولا بد من ارتكاب مجاز لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعا في كل من معدوداته، تقول: "سرت يومين" لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني أو بعض الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجه، ووجه المجاز: إما من حيث إنه نسب الواقع في [ ص: 345 ] أحدهما واقعا فيها كقوله: "نسيا حوتهما" و "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"، والناسي أحدهما، وكذلك المخرج من أحدهما، وإما من حيث حذف مضاف أي: في تمام يومين أو كمالهما.

                                                                                                                                                                                                                                      و "تعجل" يجوز أن يكون بمعنى استعجل، كتكبر واستكبر، أو مطاوعا لعجل نحو كسرته فتكسر، أو بمعنى المجرد، وهو عجل، قال الزمخشري: "والمطاوعة أوفق، لقوله: "ومن تأخر"، كما هي كذلك في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      892 - قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل

                                                                                                                                                                                                                                      لأجل قوله "المتأني". وتعجل واستعجل يكونان لازمين ومتعديين، ومتعلق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدره مفعولا صريحا أي: من تعجل النفر، وأن تقدره مجرورا أي: بالنفر، حسب استعماله لازما ومتعديا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآيات من علم البديع: الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في "تعجل وتأخر" فهو كقوله: "أضحك وأبكى" و "أمات وأحيا" وهذا طباق [ ص: 346 ] غريب، من حيث جعل ضد "تعجل": "تأخر"، وإنما ضد "تعجل": "تأنى" وضد تأخر: تقدم، ولكنه في "تعجل" عبر بالملزوم عن اللازم، وفي "تأخر" باللازم عن الملزوم. وفيها من علم البيان: المقابلة اللفظية، وذلك أن المتأخر بالنفر آت بزيادة في العبادة فله زيادة في الأجر على المتعجل فقال في حقه أيضا: "فلا إثم عليه" ليقابل قوله أولا: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، فهو كقوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" و "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور "فلا إثم" بقطع الهمزة على الأصل، وقرأ سالم بن عبد الله: "فلا اثم" بوصلها وحذف ألف لا، ووجهه أنه خفف الهمزة بين بين فقربت من الساكن فحذفها تشبيها بالألف، فالتقى ساكنان: ألف لا وثاء "إثم"، فحذفت ألف "لا" لالتقاء الساكنين. وقال أبو البقاء: "ووجهها أنه لما خلط الاسم بـ "لا" حذف الهمزة تشبيها لها بالألف" يعني أنه لما ركبت "لا" مع اسمها صارا كالشيء الواحد، والهمزة شبيهة الألف، فكأنه اجتمع ألفان فحذفت الثانية لذلك، ثم حذفت الألف لما ذكرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لمن اتقى" هذا الجار خبر مبتدأ محذوف، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلق هذا الجار من جهة المعنى لا الصناعة فقيل: يتعلق من جهة المعنى بقوله: "فلا إثم عليه" فتقدر له ما يليق به أي: انتفاء الإثم لمن اتقى. وقيل: متعلق بقوله: "واذكروا" أي: الذكر لمن اتقى. وقيل: متعلق بقوله: "غفور رحيم" أي: المغفرة لمن اتقى. وقيل: [ ص: 347 ] التقدير: السلامة لمن اتقى. وقيل: التقدير: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي، لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أن أحدهما يرهق صاحبه إثما في الإقدام عليه، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه. وقيل: التقدير: ذلك الذي مر ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى، لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: "ذلك خير للذين يريدون وجه الله". قال هذين التقديرين الزمخشري. وقال أبو البقاء: "تقديره: جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى". وكلها أقوال متقاربة. ويجوز أن يكون "لمن اتقى" في محل نصب على أن اللام لام التعليل، ويتعلق بقوله "فلا إثم عليه" أي: انتقى الإثم لأجل المتقي. ومفعول: "اتقى" محذوف، أي: اتقى الله، وقد جاء مصرحا به في مصحف عبد الله وقيل: اتقى الصيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية