الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 414 ] آ. (221) قوله تعالى: ولا تنكحوا : الجمهور على فتح تاء المضارعة، وقرأ الأعمش بضمها من: أنكح الرباعي، فالهمزة فيه للتعدية، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوف، وهو المفعول الأول لأنه فاعل معنى تقديره: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات.

                                                                                                                                                                                                                                      والنكاح في الأصل عند العرب: لزوم الشيء والإكباب عليه، ومنه: "نكح المطر الأرض"، حكاه ثعلب عن أبي زيد وابن الأعرابي. وقيل: أصله المداخلة ومنه: تناكحت الشجر: أي تداخلت أغصانها، ويطلق النكاح على العقد كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      947 - ولا تقربن جارة إن سرها حرام عليك فانكحن أو تأبدا

                                                                                                                                                                                                                                      أي: فاعقد أو توحش وتجنب النساء. ويطلق أيضا على الوطء كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      948 - الباركين على ظهور نسوتهم     والناكحين بشطء دجلة البقرا

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الفراء "نكح المرأة" بضم النون على بناء "القبل" و "الدبر"، وهو بضعها، فمعنى قولهم: "نكحها" أي أصاب ذلك الموضع، نحو كبده: أي أصاب كبده، وقلما يقال: ناكحها، كما يقال باضعها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو علي: "فرقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا: "نكح فلان فلانة" أو ابنة فلان أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نكح [ ص: 415 ] امرأته أو زوجته فلا يريدون غير المجامعة وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظاهر: الثاني، فإن المجاز خير من الاشتراك، وإذا قيل بالحقيقة والمجاز فإنهما حقيقة: ذهب قوم إلى أنه حقيقة في الوطء وذهب قوم إلى العكس. قال الراغب: "أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد، لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباحهم تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه. قال تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حتى يؤمن"" حتى" بمعنى "إلى" فقط، والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" أي: إلى أن يؤمن، وهو مبني على المشهور لاتصاله بنون الإناث، والأصل: يؤمنن، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولأمة مؤمنة خير" سوغ الابتداء بـ "أمة" شيئان: لام الابتداء والوصف "وأصل أمة": أمو، فحذفت لامها على غير قياس، وعوض منها تاء التأنيث كـ "قلة" و "ثبة" يدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع. قال الكلابي:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 416 ]

                                                                                                                                                                                                                                      949 - أما الإماء فلا يدعونني ولدا     إذا تداعى بنو الإموان بالعار

                                                                                                                                                                                                                                      ولظهورها في المصدر أيضا، قالوا: أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموة. وهل وزنها "فعلة" بتحريك العين أو "فعلة" بسكونها؟ قولان، أظهرهما الأول، وكان قياسها على هذا أن تقلب لامها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كفتاة وقناة، ولكن حذفت على غير قياس. والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنه زعم أن جمع الأمة أمو، وأن وزنها فعلة بسكون العين فيكون مثل نخل ونخلة فأصلها أموة، فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين، فلما جمعوها على مثل نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا: أمة وأم، فكرهوا أن يجعلوها حرفين، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت [آخر] الاسم، فقدموا الواو وجعلوه ألفا بين الهمزة والميم فقالوا: أام. وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزم أن يكون الإعراب على الميم كما كان على لام "نخل" وراء "تمر"، ولكنه على التاء المحذوفة مقدر كما سيأتي بيانه. وجمعت على "إموان" كما تقدم، وعلى إماء، والأصل: إماؤ، نحو رقبة ورقاب، فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة ككساء. وفي الحديث: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وعلى آم، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      950 - تمشي بها ربد النعا     م تماشي الآم الزوافر

                                                                                                                                                                                                                                      والأصل "أأمو" بهمزتين، الأولى مفتوحة زائدة، والثانية ساكنة هي فاء [ ص: 417 ] الكلمة نحو: أكمة وأأكم، فوقعت الواو طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له، فقلبت الواو ياء والضمة كسرة لتصح الياء، فصار الاسم من قبيل المنقوص. نحو: غاز وقاض، ثم قلبت الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد أخرى مفتوحة، فتقول: جاء آم ومررت بآم ورأيت آميا، تقدر الضمة والكسرة وتظهر الفتحة، ونظيره في هذا القلب مجموعا أدل وأجر جمع دلو وجرو، وهذا التصريف الذي ذكرناه يرد على أبي الهيثم قوله المتقدم، أعني كونه زعم أن آميا جمع أموة بسكون العين، وأنه قلب، إذ لو كان كذلك لكان ينبغي أن يقال جاء آم ومررت بآم ورأيت آما، وجاء الآم ومررت بالآم، فتعرب بالحركات الظاهرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والتفضيل في قوله: "خير من مشركة": إما على سبيل الاعتقاد لا على سبيل الوجود، وإما لأن نكاح المؤمنة يشتمل على منافع أخروية ونكاح المشركة الحرة يشتمل على منافع دنيوية، هذا إذا التزمنا بأن "أفعل" لا بد أن يدل على زيادة ما وإلا فلا حاجة إلى هذا التأويل كما هو مذهب الفراء وجماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "من مشركة" يحتمل أن يكون "مشركة" صفة لمحذوف مدلول عليه بمقابله أي: من حرة مشركة، أو مدلول عليه بلفظه أي: من أمة مشركة، على حسب الخلاف في قوله: "ولأمة" هل المراد المملوكة للآدميين أو مطلق النساء لأنهن ملك لله تعالى؟ وكذلك الخلاف في قوله: "ولعبد مؤمن خير من مشرك" والكلام عليه كالكلام على هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولو أعجبتكم" وقوله "ولو أعجبكم" هذه الجملة في محل نصب على الحال، وقد تقدم أن "لو" هذه في مثل هذا التركيب شرطية بمعنى "إن" نحو: "ردوا السائل ولو بظلف محرق"، وأن الواو للعطف على حال [ ص: 418 ] محذوفة، التقدير: خير من مشركة على كل حال، ولو في هذه الحال، وأن هذا يكون لاستقصاء الأحوال، وأن ما بعد "لو" هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه ما، فالإعجاب مناف لحكم الخيرية، ومقتض جواز النكاح لرغبة الناكح فيها. وقال أبو البقاء: "لو" هنا بمعنى "إن"، وكذا كل موضع وقع بعد "لو" الفعل الماضي، وكان جوابها متقدما عليها، وكونها بمعنى "إن" لا يشترط فيه تقدم جوابها، ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى: "لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم" إنها بمعنى "إن" مع أن جوابها وهو "خافوا" متأخر عنها، وقد نص هو على ذلك في آية النساء قال في خافوا: "وهو جواب "لو" ومعناها "إن".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والمغفرة" الجمهور على جر "المغفرة" عطفا على "الجنة" و "بإذنه" متعلق بيدعو، أي: بتسهيله.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي غير هذه الآية تقدمت "المغفرة" على الجنة: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة"" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة"، وهذا هو الأصل لأن المغفرة سبب في دخول الجنة، وإنما أخرت هنا للمقابلة، فإن قبلها "يدعون إلى النار"، فقدم الجنة ليقابل بها النار لفظا، ولتشوق النفوس إليها حين ذكر دعاء الله إليها فأتى بالأشرف. وقرأ الحسن "والمغفرة بإذنه" على الابتداء والخبر، أي: حاصلة بإذنه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية