الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (228) قوله تعالى: والمطلقات يتربصن : مبتدأ وخبر، وهل هذه الجملة من باب الخبر الواقع موقع الأمر أي: ليتربصن، أو على بابها؟ قولان. وقال الكوفيون: إن لفظها أمر على تقدير لام الأمر، ومن جعلها على بابها قدر: وحكم المطلقات أن يتربصن، فحذف "حكم" من الأول و "أن" المصدرية من الثاني، وهو بعيد جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "تربص" يتعدى بنفسه لأنه بمعنى انتظر، وهذه الآية تحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون مفعول التربص محذوفا وهو الظاهر، تقديره: يتربصن التزويج أو الأزواج، ويكون "ثلاثة قروء" على هذا منصوبا على الظرف، لأنه اسم عدد مضاف إلى ظرف، والثاني: أن يكون المفعول هو نفس "ثلاثة قروء" أي ينتظرون مضي ثلاثة قروء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: "بأنفسهن" فيحتمل وجهين، أحدهما وهو الظاهر: أن يتعلق بـ "يتربصن"، ويكون معنى الباء السببية أي: بسبب أنفسهن. وذكر الأنفس أو الضمير المنفصل في مثل هذا التركيب واجب، ولا يجوز أن يؤتى بالضمير [ ص: 438 ] المتصل، لو قيل في نظيره: "الهندات يتربصن بهن" لم يجز لئلا يتعدى فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون "بأنفسهن" تأكيدا للمضمر المرفوع المتصل وهو النون، والباء زائدة في التوكيد، لأنه يجوز زيادتها في النفس والعين مؤكدا بهما. تقول: جاء زيد نفسه وبنفسه وعينه وبعينه. وعلى هذا فلا تتعلق بشيء لزيادتها. لا يقال: لا جائز أن تكون تأكيدا للضمير; لأنه كان يجب أن تؤكد بضمير رفع منفصل، لأنه لا يؤكد الضمير المرفوع المتصل بالنفس والعين إلا بعد تأكيده بالضمير المرفوع المنفصل فيقال: زيد جاء هو نفسه عينه، لأن هذا المؤكد خرج عن الأصل، لما جر بالباء الزائدة أشبه الفضلات، فخرج بذلك عن حكم التوابع فلم يلتزم فيه ما التزم في غيره، ويؤيد ذلك قولهم: "أحسن بزيد وأجمل"، أي: به، وهذا المجرور فاعل عند البصريين، والفاعل عندهم لا يحذف، لكنه لما جرى مجرى الفضلات بسبب جره بالحرف أو خرج عن أصل باب الفاعل، فلذلك جاز حذفه، على أن أبا الحسن الأخفش ذكر في "المسائل" أنهم قالوا: "قاموا أنفسهم" من غير تأكيد. وفائدة التوكيد هنا أن يباشرن التربص هن، لا أن غيرهن يباشرنهن التربص، ليكون ذلك أبلغ في المراد.

                                                                                                                                                                                                                                      والقروء: جمع كثرة، ومن ثلاثة إلى عشرة يميز بجموع القلة ولا يعدل عن القلة إلى ذلك إلا عند عدم استعمال جمع قلة غالبا، وههنا فلفظ جمع القلة موجود وهو "أقراء"، فما الحكمة بالإتيان بجمع الكثرة مع وجود جمع القلة ؟. فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه لما جمع المطلقات جمع القروء، لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة أقراء فصارت كثيرة بهذا الاعتبار. [ ص: 439 ] الثاني: أنه من باب الاتساع ووضع أحد الجمعين موضع الآخر. والثالث: أن قروءا جمع قرء بفتح القاف، فلو جاء على "أقراء" لجاء على غير القياس لأن أفعالا لا يطرد في فعل بفتح الفاء. والرابع - وهو مذهب المبرد -: أن التقدير "ثلاثة من قروء"، فحذف "من". وأجاز: ثلاثة حمير وثلاثة كلاب، أي: من حمير ومن كلاب. وقال أبو البقاء: "وقيل: التقدير ثلاثة أقراء من قروء" وهذا هو مذهب المبرد بعينه، وإنما فسر معناه وأوضحه.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرء في اللغة قيل: أصله الوقت المعتاد تردده، ومنه: قرء النجم لوقت طلوعه وأفوله، يقال: "أقرأ النجم" أي: طلع أو أفل. [ومنه قيل لوقت] هبوب الريح: "قرؤها وقارئها، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      971 - شنئت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح

                                                                                                                                                                                                                                      أي: لوقتها، وقيل: أصله الخروج من طهر إلى حيض أو عكسه، وقيل: هو من قولهم: قريت الماء في الحوض أي: جمعته، وهو غلط لأن هذا من ذوات الياء والقرء مهموز.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا تقرر ما ذكرت لك فاعلم أن أهل العلم اختلفوا في إطلاقه على الحيض والطهر: هل هو من باب الاشتراك اللفظي، ويكون من الأضداد أو من الاشتراك المعنوي فيكون من المتواطئ، كما إذا أخذنا القدر المشترك: إما الاجتماع وإما الوقت وإما الخروج ونحو ذلك. وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها، ويقال فيهما: أقرأت المرأة أي: حاضت أو طهرت. وقال [ ص: 440 ] الأخفش: أقرأت أي: صارت ذات حيض، وقرأت بغير ألف أي: حاضت. وقيل: القرء: الحيض مع الطهر، وقيل: ما بين الحيضتين. وقيل: أصله الجمع، ومنه: قرأت الماء في الحوض: جمعته، ومنه: قرأ القرآن: وقولهم: ما أقرأت هذه الناقة في بطنها سلاقط، أي: لم تجمع فيه جنينا، ومنه قول عمرو بن كلثوم:


                                                                                                                                                                                                                                      972 - ذراعي عيطل أدماء بكر     هجان اللون لم تقرأ جنينا

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا إذا أريد به الحيض فلاجتماع الدم في الرحم، وإذا أريد به الطهر فلاجتماع الدم في البدن، ولكن القائل بالاشتراك اللفظي وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللسان كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      973 - أفي كل عام أنت جاشم غزوة     تشد لأقصاها عظيم عزائكا
                                                                                                                                                                                                                                      مورثة عزا وفي الحي رفعة     لما ضاع فيها من قروء نسائكا

                                                                                                                                                                                                                                      ومن مجيئه للحيض قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      974 - يا رب ذي ضغن علي فارض     له قروء كقروء الحائض

                                                                                                                                                                                                                                      أي: فسال دمه كدم الحائض. ويقال "قرء" بالضم نقله الأصمعي، و "قرء" بالفتح نقله أبو زيد، وهما بمعنى واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 441 ] وقرأ الحسن: "ثلاثة قرو" بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همز. ووجهها أنه أضاف العدد لاسم الجنس، والقرو لغة في القرء. وقرأ الزهري - ويروى عن نافع -: "قرو" بتشديد الواو، وهي كقراءة الجمهور إلا أنه خفف فأبدل الهمزة واوا وأدغم فيها الواو قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لهن" متعلق بـ "يحل"، واللام للتبليغ، كهي في "قلت لك".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ما خلق" في "ما" وجهان، أظهرهما: أنها موصولة بمعنى الذي، والثاني: أنها نكرة موصوفة، وعلى كلا التقديرين فالعائد محذوف لاستكمال الشروط، والتقدير: ما خلقه، و "ما" يجوز أن يراد بها الجنين وهو في حكم غير العاقل، فلذلك أوقعت عليه "ما" وأن يراد بها دم الحيض.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في أرحامهن" فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بخلق. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من عائد "ما" المحذوف، التقدير ما خلقه الله كائنا في أرحامهن، قالوا: وهي حال مقدرة قال أبو البقاء: "لأن وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه". وقرأ مبشر بن عبيد: "في أرحامهن" و "بردهن" بضم هاء الكناية، وقد تقدم أنه الأصل وأنه لغة الحجاز، وأن الكسر لأجل تجانس الياء أو الكسرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إن كن" هذا شرط، وفي جوابه المذهبان المشهوران: إما محذوف، وتقديره من لفظ ما تقدم لتقوى الدلالة عليه، أي: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يحل لهن أن يكتمن، وإما أنه متقدم كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيد، وقيل: "إن" بمعنى إذ وهو ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 442 ] قوله: "وبعولتهن" الجمهور على رفع تاء بعولتهن، وسكنها مسلمة بن محارب، وذلك لتوالي الحركات فخفف، ونظيره قراءة: "ورسلنا لديهم يكتبون" بسكون اللام حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمرو أن لغة تميم تسكين المرفوع من "يعلمهم" ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مجرى عضد وعجز، تشبيها للمنفصل بالمتصل. وقد تقدم ذلك بأشبع من هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أحق" خبر عن "بعولتهن" وهو بمعنى حقيقون، إذ لا معنى للتفضيل هنا، فإن غير الأزواج لا حق لهن فيهن البتة، ولا حق أيضا للنساء في ذلك، حتى لو أبت هي الرجعة لم يعتد بذلك فلذلك قلت: إن "أحق" هنا لا تفضيل فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      والبعولة: جمع "بعل" وهو زوج المرأة...، قالوا: وسمي بذلك... المستعلي على... ولما علا من الأرض... فشرب بعروقه: بعل، ويقال: بعل الرجل يبعل كـ منع يمنع. والتاء في بعولة لتأنيث الجمع نحو فحولة وذكورة، ولا ينقاس هذا لو قلت: كعب وكعوبة لم يجز. والبعولة أيضا مصدر بعل الرجل بعولة وبعالا، وامرأة حسنة التبعل، وباعلها كناية عن الجماع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بردهن" متعلق ب"أحق". وأما "في ذلك" ففيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق أيضا ب"أحق"، ويكون المشار إليه بذلك على هذا العدة، أي تستحق [ ص: 443 ] رجعتها ما دامت في العدة، وليس المعنى أنه أحق أن يردها في العدة، وإنما يردها في النكاح أو إلى النكاح. والثاني: أن تتعلق بالرد ويكون المشار إليه بذلك على هذا النكاح، قاله أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "بعولتهن" عائد على بعض المطلقات وهن الرجعيات خاصة. وقال الشيخ: "والأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه الحكم، أي: وبعولة رجعياتهن" فعلى ما قاله الشيخ يعود الضمير على جميع المطلقات.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولهن مثل الذي عليهن" خبر مقدم فهو متعلق بمحذوف، وعلى مذهب الأخفش من باب الفعل والفاعل. وهذا من بديع الكلام، وذلك أنه قد حذف من أوله شيء أثبت في آخره نظيره، وحذف من آخره شيء أثبت نظيره في الأول، وأصل التركيب: ولهن على أزواجهن مثل الذي لأزواجهن عليهن، فحذف "على أزواجهن" لإثبات نظيره وهو "عليهن"، وحذفت "لأزواجهن" لإثبات نظيره وهو "لهن".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالمعروف" فيها وجهان، أحدهما: أن يتعلق بما تعلق به "لهن" من الاستقرار أي: استقر لهن بالمعروف. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل"مثل"، لأن "مثل" لا يتعرف بالإضافة، فعلى الأول هو في محل نصب، وعلى الثاني هو في محل رفع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وللرجال عليهن درجة" فيه وجهان، أظهرهما: أن "للرجال" خبر [ ص: 444 ] مقدم و "درجة" مبتدأ مؤخر، و "عليهن" فيه وجهان على هذا التقدير: إما التعلق بما تعلق به "للرجال"، وإما التعلق بمحذوف على أنه حال من "درجة" مقدما عليها لأنه كان صفة في الأصل فلما قدم انتصب حالا. والثاني: أن يكون "عليهن" هو الخبر، و "للرجال" حال من "درجة" لأنه يجوز أن يكون صفة لها في الأصل، ولكن هذا ضعيف من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنوي لأن "عليهن" حينئذ هو العامل فيها لوقوعه خبرا. على أن بعضهم قال: متى كانت الحال نفسها ظرفا أو جارا ومجرورا قوي تقديمها على عاملها المعنوي، وهذا من ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وقد رده الشيخ بأن هذه الحال قد تقدمت على جزأي الجملة فهي نظير: "قائما في الدار زيد"، قال: "وهذا ممنوع لا ضعيف، كما زعم بعضهم، وجعل محل الخلاف فيما إذا لم تتقدم الحال - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة، بل تتوسط نحو: "زيد قائما في الدار"، قال: "فأبو الحسن يجيزها وغيره يمنعها".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية