الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (117) قوله تعالى: بديع السماوات : المشهور رفعه على أنه [ ص: 85 ] خبر مبتدأ محذوف أي: هو بديع. وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير في "له" وفيه الخلاف المشهور. وقرئ بالنصب على المدح، وبديع السماوات من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلا في الأصل، والأصل: بديع سماواته، أي بدعت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل فنصبت ما كان فاعلا ثم أضيفت إليه تخفيفا، وهكذا كل ما جاء من نظائره، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب لئلا يلزم إضافة الصفة إلى فاعلها وهو لا يجوز، كما لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل. وقال الزمخشري: "وبديع السماوات" من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها". ورد عليه الشيخ بما تقدم، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه. وأجاز الزمخشري فيه وجها ثانيا: وهو أن يكون "بديع" بمعنى مبدع، كما أن سميعا في قول عمرو بمعنى مسمع نحو:


                                                                                                                                                                                                                                      692 - أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع



                                                                                                                                                                                                                                      إلا أنه قال: "وفيه نظر". وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره، وكأن النظر الذي ذكره الزمخشري - والله أعلم - هو أن فعيلا بمعنى مفعل غير [ ص: 86 ] مقيس، وبيت عمرو متأول، وعلى هذا القول يكون بديع السماوات من باب إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تقديرا. والمبدع: المخترع المنشئ، والبديع: الشيء الغريب الفائق غيره حسنا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وإذا قضى أمرا" العامل في "إذا" محذوف يدل عليه الجواب من قوله: "فإنما يقول"، والتقدير: إذا قضى أمرا يكون، فيكون هو الناصب له. و "قضى" له معان كثيرة، قال الأزهري: "قضى" على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه قال أبو ذؤيب:


                                                                                                                                                                                                                                      693 - وعليهما مسرودتان قضاهما     داود أو صنع السوابغ تبع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشماخ:


                                                                                                                                                                                                                                      694 - قضيت أمورا ثم غادرت بعدها     بوائق في أكمامها لم تفتق



                                                                                                                                                                                                                                      فيكون بمعنى خلق نحو: "فقضاهن سبع سماوات"، وبمعنى أعلم: "وقضينا إلى بني إسرائيل"، وبمعنى أمر: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"، وبمعنى وفى: "فلما قضى موسى الأجل"، وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا، وبمعنى أراد: "وإذا قضى أمرا" [وبمعنى] أنهى، ويجيء بمعنى قدر وأمضى، تقول: قضى يقضي قضاء قال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 87 ]

                                                                                                                                                                                                                                      695 - سأغسل عني العار بالسيف جالبا     علي قضاء الله ما كان جالبا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فيكون" الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مستأنفا أي خبرا لمبتدأ محذوف أي: فهو يكون، ويعزى لسيبويه، وبه قال الزجاج في أحد قوليه. "والثاني: أن يكون معطوفا على "يقول" وهو قول الزجاج والطبري. ورد ابن عطية هذا القول وجعله خطأ من جهة المعنى; لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود"انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟ وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة، أما إذا قيل بأنه على سبيل التمثيل - وهو الأصح - فلا، ومثله قول أبي النجم:


                                                                                                                                                                                                                                      696 - إذا قالت الأنساع للبطن الحقي      ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يكون معطوفا على "كن" من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وضعف أن يكون عطفا على "يقول"، لأن من المواضع ما ليس [ ص: 88 ] فيه "يقول" كالموضع الثاني في آل عمران، وهو: "ثم قال له كن فيكون"، ولم ير عطفه على "قال" من حيث إنه مضارع فلا يعطف على ماض فأورد على نفسه:


                                                                                                                                                                                                                                      697 - ولقد أمر على اللئيم يسبني     فمضيت ثمت قلت لا يعنيني



                                                                                                                                                                                                                                      فقال: "أمر بمعنى مررت. قال بعضهم: "ويكون في هذه الآية - يعني في آية آل عمران - بمعنى كان فليجز عطفه على "قال".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر "فيكون" نصبا هنا وفي الأول من آل عمران، وهي: "كن فيكون، ونعلمه"، تحرزا من قوله: "كن فيكون الحق من ربك" وفي مريم: "كن فيكون وإن الله ربي"، وفي غافر: "كن فيكون ألم تر إلى الذين يجادلون"، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي: "أن يقول له كن فيكون". أما آيتا النحل ويس فظاهرتان لأن قبل الفعل منصوبا يصح عطفه عليه وسيأتي.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما انفرد به ابن عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلام [ ص: 89 ] الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام الكبير، فقال ابن مجاهد: "قرأ ابن عامر "فيكون" نصبا وهذا غير جائز في العربية; لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل، فإنه نسق لا جواب"، وقال في آل عمران: "قرأ ابن عامر وحده: "كن فيكون" بالنصب وهو وهم" قال: "وقال هشام: كان أيوب بن تميم يقرأ: فيكون نصبا ثم رجع فقرأ: فيكون رفعا"، وقال الزجاج: "كن فيكون: رفع لا غير".

                                                                                                                                                                                                                                      وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وجد في اللفظ صورة أمر فنصبنا في جوابه بالفاء، وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يصح لوجهين، أحدهما: أن هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر نحو: "فليمدد له الرحمن" أي: فيمد، وإذا كان معناه الخبر لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      698 - سأترك منزلي لبني تميم     وألحق بالحجاز فأستريحا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      699 - لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها     ويأوي إليها المستجير فيعصما



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 90 ] والثاني: أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو: "ائتني فأكرمك" تقديره: إن أتيتني أكرمتك، وههنا لا يصح ذلك إذ يصير التقدير: إن تكن تكن، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلا، وقد علمت أنه لا بد من تغايرهما وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطا لنفسه وهو محال. قالوا: والمعاملة اللفظية واردة في كلامهم نحو: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا" "قل للذين آمنوا يغفروا" وقال عمر بن أبي ربيعة:


                                                                                                                                                                                                                                      700 - فقلت لجناد خذ السيف واشتمل     عليه برفق وارقب الشمس تغرب
                                                                                                                                                                                                                                      وأسرج لي الدهماء واذهب بممطري     ولا يعلمن خلق من الناس مذهبي



                                                                                                                                                                                                                                      فجعل "تغرب" جوابا لـ "ارقب" وهو غير مترتب عليه، وكذلك لا يلزم من قوله [تعالى] أن يفعلوا، وإنما ذلك مراعاة لجانب اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                                      أما ما ذكروه في بيت عمر فصحيح، وأما الآيات فلا نسلم أنه غير مترتب [عليه] ، لأنه أراد بالعباد الخلص، ولذلك أضافهم إليه، أو تقول إن الجزم على حذف لام الأمر وسيأتي تحقيقه في موضعه. وقال الشيخ جمال الدين بن مالك: "إن "أن" الناصبة قد تضمر بعد الحصر بإنما اختيارا وحكاه عن بعض الكوفيين، قال: "وحكوا عن العرب: "إنما هي ضربة من الأسد فتحطم ظهره" بنصب "تحطم" فعلى هذا يكون النصب في قراءة ابن [ ص: 91 ] عامر محمولا على ذلك، إلا أن هذا الذي نصبوه دليلا لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم، تقديره: إنما هي ضربة فحطم، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      701 - للبس عباءة وتقر عيني     أحب إلي من لبس الشفوف



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا نهاية القول في هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية