الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (204) قوله تعالى: من يعجبك : "من" يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون نكرة موصوفة، وقد تقدم نظيرها أول السورة فينظر هناك. والإعجاب: استحسان الشيء والميل إليه والتعظيم له. والهمزة فيه للتعدي. وقال الراغب: "العجب حيرة تعرض للإنسان [عند الجهل] بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة. بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا: ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه". انتهى. ويقال: عجبت من كذا، قال:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 348 ]

                                                                                                                                                                                                                                      893 - عجبت والدهر كثير عجبه من عنزي سبني لم أضربه

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في الحياة" فيه وجهان، أحدهما أن يتعلق بـ "قوله"، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، لأن ادعاءه المحبة بالباطل يطلب حظا من الدنيا. والثاني: أن يتعلق بـ "يعجبك" أي: قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام. قال الشيخ: "والذي يظهر أنه متعلق بيعجبك، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف، فمقالته في الظاهر معجبة دائما، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالة خشنة منافية".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ويشهد الله" في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها عطف على "يعجبك"، فهي صلة لا محل لها من الإعراب أو صفة، فتكون في محل رفع على حسب القول في "من". والثاني: أن تكون حالية، وفي صاحبها حينئذ وجهان، أحدهما: أنه الضمير المرفوع المستكن في "يعجبك"، والثاني: أنه الضمير المجرور في "قوله" تقديره: يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسما على ذلك. وفي جعلها حالا نظر من وجهين، أحدهما: من جهة المعنى، والثاني من جهة الصناعة، وأما الأول فلأنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحال والظاهر خلافه. وأما الثاني فلأنه مضارع مثبت فلا يقع حالا إلا في شذوذ، نحو: "قمت وأصك عينه، أو ضرورة نحو:


                                                                                                                                                                                                                                      894 - ... ... ... ...     نجوت وأرهنهم مالكا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 349 ] وتقديره مبتدأ قبله على خلاف الأصل، أي: وهو يشهد.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على ضم حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذا من أشهد ونصب الجلالة مفعولا به. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهما ورفع الجلالة فاعلا، وقرأ أبي: "يستشهد الله". فأما قراءة الجمهور وتفسيرهم فإن المعنى: يحلف بالله ويشهده إنه صادق، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللعان، قيل: فيكون اسم الله منتصبا على حذف حرف الجر أي: يقسم بالله، وهذا سهو من قائله، لأن المستعمل بمعنى القسم "شهد" الثلاثي لا "أشهد" الرباعي، لا تقول: أشهد بالله، بل: أشهد بالله، فمعنى قراءة الجمهور: يطلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تفسير الجمهور فيحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى، تقديره: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه، لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضده وهو الذي يعجب سامعه، ويقوي هذا التأويل قراءة أبي حيوة; إذ معناها: ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر. وأما قراءة أبي فيحتمل استفعل وجهين، أحدهما: أن يكون بمعنى أفعل فيوافق قراءة الجمهور. والثاني: أنه بمعنى المجرد وهو شهد، وتكون الجلالة منصوبة على إسقاط الخافض.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وهو ألد الخصام" الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، ونزيد [ ص: 350 ] عليها وجها آخر وهو أن تكون حالا من الضمير في "يشهد". والألد: الشديد من اللدد وهو شدة الخصومة، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      895 - إن تحت التراب عزما وحزما     وخصيما ألد ذا مغلاق

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: لددت بكسر العين ألد بفتحها، ولددته بفتح العين ألده بضمها أي: غلبته في ذلك فيكون متعديا قال:


                                                                                                                                                                                                                                      896 - تلد أقران الرجال اللدد      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      ورجل ألد وألندد ويلندد، وامرأة لداء، والجمع لد كحمر.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي اشتقاقه أقوال، أحدها: من لديدي العنق وهما صفحتاه قاله الزجاج، وقيل: من لديدي الوادي وهما جانباه، سميا بذلك لاعوجاجهما وقيل: هو من لده إذا حبسه فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "الخصام" قولان، أحدهما: أنه جمع خصم بالفتح نحو: كعب وكعاب وكلب وكلاب وبحر وبحار، وعلى هذا فلا تحتاج إلى تأويل، والثاني: أنه مصدر، يقال: خاصم خصاما نحو: قاتل قتالا، وعلى هذا فلا بد من مصحح لوقوعه خبرا عن الجثة، فقيل: في الكلام حذف من الأول أي: [ ص: 351 ] وخصامه أشد الخصام، وقيل: من الثاني: أي وهو أشد ذوي الخصام. وقيل: [أريد] بالمصدر اسم الفاعل كما يوصف به في قولهم: رجل عدل. وقيل: "أفعل" هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعنى لديد الخصام، فهو من باب إضافة الصفة المشبهة. وقال الزمخشري: "والخصام المخاصمة، وإضافة الألد بمعنى "في" كقولهم: "ثبت الغدر" يعني أن "أفعل" ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافة على معنى "في" قال الشيخ: "وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى "في" وهو قول مرجوح. وقيل: "هو" ليس ضمير "من" بل ضمير الخصومة يفسره سياق الكلام، أي: وخصامه أشد الخصام. وجعل أبو البقاء "هو" ضمير المصدر الذي هو "قوله" فإنه قال: "ويجوز أن يكون "هو" ضمير المصدر الذي هو "قوله" وقوله خصام".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية