الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 322 ] آ. (197) قوله تعالى: الحج أشهر : "الحج" مبتدأ و "أشهر" خبره، والمبتدأ والخبر لا بد أن يصدقا على ذات واحدة، و "الحج" فعل من الأفعال، و "أشهر" زمان، فهما غيران، فلا بد من تأويل، وفيه ثلاثة احتمالات، أحدهما: أنه على حذف مضاف من الأول، تقديره: أشهر الحج أشهر معلومات. الثاني: الحذف من الثاني تقديره: الحج حج أشهر، فيكون حذف من كل واحد ما أثبت نظيره. الثالث: أن تجعل الحدث نفس الزمان مبالغة، ووجه المجاز كونه حالا فيه، فلما اتسع في الظرف جعل نفس الحدث، ونظيرها: "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" وإذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن حدث جاز فيه الرفع والنصب مطلقا، أي: سواء كان الحدث مستوعبا للظرف أم لا، هذا مذهب البصريين.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الكوفيون فقالوا: إن كان الحدث مستوعبا فالرفع فقط نحو: "الصوم يوم" وإن لم يكن مستوعبا فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو: "ميعادك يوم" والفراء يجيز نصبه مثل البصريين، وقد نقل عنه أنه منع نصب "أشهر" يعني في الآية لأنها نكرة، فيكون له في المسألة قولان، وهذه المسألة بعيدة الأطراف تضمها كتب النحويين. قال ابن عطية: "ومن قدر الكلام: [الحج] في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ به أحد" قال الشيخ: "ولا يلزم ذلك، لأن الرفع على جهة الاتساع، وإن كان أصله الجر بفي".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فمن": "من" يجوز فيها أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة كما تقدم في نظائرها، و "فيهن" متعلق بـ "فرض". والضمير في "فيهن" يعود على "أشهر"، وجيء به كضمير الإناث لما تقدم من أن جمع غير العاقل في [ ص: 323 ] القلة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح، فلذلك جاء "فيهن" دون "فيها"، وهذا بخلاف قوله "منها أربعة حرم" لأنه هناك جمع كثرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فلا رفث" الفاء: إما جواب الشرط، وإما زائدة في الخبر على حسب النحويين المتقدمين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين "رفث" و "فسوق" ورفعهما وفتح "جدال"، والباقون بفتح الثلاثة، وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين، والعطاردي بنصب الثلاثة والتنوين.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة الرفع ففيها وجهان، أظهرهما: أن "لا" ملغاة وما بعدها رفع بالابتداء، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليها. و "في الحج" خبر المبتدأ الثالث، وحذف خبر الأول والثاني لدلالة خبر الثالث عليهما، أو يكون "في الحج" خبر الأول، وحذف خبر الثاني والثالث لدلالة خبر الأول عليهما، ويجوز أن يكون "في الحج" خبر الثلاثة. ولا يجوز أن يكون "في الحج" خبر الثاني، وحذف خبر الأول والثالث لقبح مثل هذا التركيب، ولتأديته إلى الفصل.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن تكون "لا" عاملة عمل ليس، ولعملها عملها شروط: تنكير الاسم، وألا يتقدم الخبر ولا ينتقض النفي، فيكون "رفث" اسمها وما بعده عطف عليه، و "وفي الحج" الخبر على حسب ما تقدم من التقادير فيما قبله. وابن عطية جزم بهذا الوجه، وهو ضعيف لأن إعمال "لا" عمل ليس لم يقم عليه دليل صريح، وإنما أنشدوا أشياء محتملة، أنشد سيبويه:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 324 ]

                                                                                                                                                                                                                                      880 - من صد عن نيرانها فأنا ابن قيس لا براح

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد غيره:


                                                                                                                                                                                                                                      881 - تعز فلا شيء على الأرض باقيا     ولا وزر مما قضى الله واقيا

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      882 - أنكرتها بعد أعوام مضين لها     لا الدار دارا ولا الجيران جيرانا

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد ابن الشجري:


                                                                                                                                                                                                                                      883 - وحلت سواد القلب لا أنا باغيا     سواها ولا في حبها متراخيا

                                                                                                                                                                                                                                      والكلام في هذه الأبيات له موضع غير هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من نصب الثلاثة منونة فتخريجها على أن تكون منصوبة على المصدر بأفعال مقدرة من لفظها، تقديره: فلا يرفث رفثا ولا يفسق فسوقا ولا يجدال جدالا، وحينئذ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنما هي نافية للجمل المقدرة، و "في الحج" متعلق بأي المصادر الثلاثة شئت، على أن المسألة من التنازع، ويكون هذا دليلا على تنازع أكثر من عاملين، وقد يمكن أن يقال: إن هذه "لا" هي التي للتبرئة على مذهب من يرى أن اسمها معرب منصوب، وإنما حذف تنوينه تخفيفا، فروجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما روجع في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      884 - ألا رجلا جزاه الله خيرا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم تحرير هذا المذهب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 325 ] وأما قراءة الفتح في الثلاثة فهي "لا" التي للتبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناء؟ قولان، الثاني للجمهور. وإذا بني معها فهل المجموع منها ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، وإن كانت عاملة في الاسم النصب على الموضع ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع في موضع مبتدأ، بل "لا" عاملة في الاسم النصب على الموضع وما بعدها خبر لـ "لا"، لأنها أجريت مجرى "أن" في نصب الاسم ورفع الخبر؟ قولان، الأول قول سيبويه، والثاني قول الأخفش. وعلى هذين المذهبين يترتب الخلاف في قوله "في الحج" فعلى مذهب سيبويه يكون في موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي الأخفش يكون في موضع خبر "لا"، وقد تقدم ذلك أول الكتاب، وإنما أعيد بعضه تنبيها عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من رفع الأولين وفتح الثالث: فالرفع على ما تقدم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن يتنبه لشيء: وهو أنا إذا قلنا بمذهب سيبويه من كون "لا" وما بني معها في موضع المبتدأ يكون "في الحج" خبرا عن الجميع، إذ ليس فيه إلا عطف مبتدأ على مبتدأ. وأما على مذهب الأخفش فلا يجوز أن يكون "في الحج" إلا خبرا للمبتدأين أو خبرا لـ "لا". ولا يجوز أن يكون خبرا للكل لاختلاف الطالب، لأن المبتدأ يطلبه خبرا له ولا يطلبه خبرا لها.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما قرئ كذلك، قال الزمخشري: "لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج" واستدل [ ص: 326 ] على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله عليه السلام: "من حج فلم يرفث ولم يفسق" وأنه لم يذكر الجدال. وهذا الذي ذكره الزمخشري سبقه إليه صاحب هذه القراءة، إلا أنه أفصح عن مراده، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفع بمعنى فلا يكون رفث ولا فسوق; أي شيء يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: "ولا جدال"، فأبو عمرو لم يجعل النفيين الأولين نهيا، بل تركهما على النفي الحقيقي; فمن ثم كان في قوله هذا نظر; فإن جملة النفي بلا التبرئة قد يراد بها النهي أيضا، وقيل ذلك في قوله: "لا ريب فيه". والذين يظهر في الجواب عن ذلك ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: "وقيل: الحجة لمن رفعهما أن النفي فيهما ليس بعام، إذ قد يقع الرفث والفسوق في الحج من بعض الناس بخلاف نفي الجدال في أمر الحج فإنه عام..." وهذا يتمشى على عرف النحويين فإنهم يقولون: لا العاملة عمل "ليس" لنفي الوحدة، والعاملة عمل "إن" لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يقال: لا رجل فيها بل رجلان أو رجال إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها. وتوسط بعضهم فقال: التي للتبرئة نص في العموم، وتلك ليست نصا، والظاهر أن النكرة في سياق النفي مطلقا للعموم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 327 ] وقد تقدم معنى الرفث والفسق. وقرأ عبد الله "الرفوث" وهو مصدر بمعنى الرفث.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فلا رفث" وما في حيزه في محل جزم إن كانت "من" شرطية، ورفع إن كانت موصولة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من رابط يرجع إلى "من"; لأنها إن كانت شرطية فقد تقدم أنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كانت موصولة فهي مبتدأ والجملة خبرها ولا رابط في اللفظ، فلا بد من تقديره وفيه احتمالان، أحدهما: أن تقدره بعد "جدال" تقديره: ولا جدال منه ويكون "منه" صفة لـ "جدال"، فيتعلق بمحذوف، فيصير نظير قولهم: "السمن منوان بدرهم" تقديره: منوان منه. والثاني: أن يقدر بعد الحج "تقديره: ولا جدال في الحج منه، أو: له. ويكون هذا الجار في محل نصب على الحال من "الحج". وللكوفيين في هذا تأويل آخر وهو أن الألف واللام نابت مناب الضمير، والأصل: في حجه، كقوله: "وأما من خاف مقام ربه" ثم قال: "فإن الجنة هي المأوى" أي: مأواه.

                                                                                                                                                                                                                                      وكرر الحج وضعا للظاهر موضع المضمر تفخيما كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      885 - لا أرى الموت يسبق الموت شيء      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وكأن نظم الكلام يقتضي: "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث فيه"، وحسن ذلك في الآية الفصل بخلاف البيت.

                                                                                                                                                                                                                                      والجدال مصدر "جادل". والجدال: أشد الخصام مشتق من الجدالة، [ ص: 328 ] وهي الأرض; كأن كل واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      886 - قد أركب الآلة بعد الآله     وأترك العاجز بالجداله

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه: "الأجدل" الصقر، لشدته. والجدل فتل الحبل، ومنه: زمام مجدول أي محكم الفتل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما تفعلوا من خير" تقدم الكلام على نظيرتها، وهي: "ما ننسخ"، فكل ما قيل ثم يقال هنا. قال أبو البقاء: "ونزيد هنا وجها آخر: وهو أن يكون "من خير" في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، تقديره: وما تفعلوا فعلا كائنا من خير".

                                                                                                                                                                                                                                      و "يعلمه" جزم على جواب الشرط، ولا بد من مجاز في الكلام: فإما أن يكون عبر بالعلم عن المجازاة على فعل الخير، كأنه قيل: يجازكم، وإما أن تقدر المجازاة بعد العلم أي: فيثيبه عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: "وما تفعلوا" التفات; إذ هو خروج من غيبة في قوله: "فمن فرض". وحمل على معنى "من" إذ جمع الضمير ولم يفرده.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد خبط بعض المعربين فقال: "من خير" متعلق بتفعلوا، وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف، تقدره: "وما تفعلوه فعلا من خير" والهاء في "يعلمه" تعود إلى "خير". وهذا غلط فاحش; لأنه من حيث علقه بالفعل [ ص: 329 ] قبله كيف يجعله نعت مصدر محذوف؟ ولأن جعله الهاء تعود إلى "خير" يلزم منه خلو جملة الجواب من ضمير يعود على اسم الشرط، وذلك لا يجوز، أما لو كانت أداة الشرط حرفا فلا يشترط فيه ذلك فالصواب ما تقدم. وإنما ذكرت لك هذا لئلا تراه فتتوهم صحته. والهاء عائدة على "ما" التي هي اسم الشرط. وألف "الزاد" منقلبة عن واو لقولهم: تزود.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية