الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (206) قوله تعالى: وإذا قيل له اتق الله : هذه الجملة [ ص: 354 ] الشرطية تحتمل الوجهين المتقدمين في نظيرتها، أعني كونها مستأنفة أو معطوفة على "يعجبك" وقد تقدم أيضا أول السورة عند قوله: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا" ما الذي قام مقام الفاعل؟ وخلاف الناس فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالإثم" في هذه الباء ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون للتعدية وهو قول الزمخشري فإنه قال: "أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه أي: حملته العزة على الإثم وألزمته ارتكابه" قال الشيخ: "وباء التعدية بابها الفعل اللازم نحو: "ذهب الله بنورهم" ،" [ولو شاء الله لذهب] بسمعهم"، وندرت التعدية بالباء في المتعدي نحو: "صككت الحجر بالحجر" أي: جعلت أحدهما يصك الآخر. الثاني: أن تكون للسببية بمعنى أن إثمه كان سببا لأخذ العزة له كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      901 - أخذته عزة من جهله فتولى مغضبا فعل الضجر

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن تكون للمصاحبة فتكون في محل نصب على الحال، وفيها حينئذ وجهان، أحدهما: أن تكون حالا من "العزة" أي: ملتبسة بالإثم. والثاني: أن تكون حالا من المفعول أي: أخذته ملتبسا بالإثم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله "العزة بالإثم" التتميم وهو نوع من علم البديع، وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها من الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة. فمن مجيئها محمودة: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" [ ص: 355 ] "أعزة على الكافرين"، فلو أطلقت لتوهم فيها بعض من لا عناية له المحمودة فقيل: "بالإثم" تتميما للمراد فرفع اللبس بها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فحسبه جهنم"" حسبه" مبتدأ و "جهنم" خبره أي: كافيهم جهنم، وقيل: "جهنم" فاعل بـ "حسب"، ثم اختلف القائل بذلك في "حسب" فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدر أريد به اسم الفاعل، والفاعل - وهو جهنم - سد مسد الخبر، وقوي "حسب" لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها، وهذا كله معنى كلام أبي البقاء. وقيل: بل "حسب" اسم فعل، والقائل بذلك اختلف: فقيل: اسم [فعل] ماض، أي: كفاهم، وقيل فعل أمر أي: ليكفهم، إلا أن إعرابه ودخول حروف الجر عليه يمنع كونه اسم فعل. وقد تلخص مما تقدم أن "حسب" هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصله مصدر أو اسم فعل ماض أو فعل أمر؟ وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، ولا يتعرف بإضافته إلى معرفة، تقول، مررت برجل حسبك، وينصب عنه التمييز، ويكون مبتدأ فيجر بباء زائدة، وخبرا فلا يجر بها، ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وإن وقع صفة لهذه الأشياء.

                                                                                                                                                                                                                                      و "جهنم" اختلف الناس فيها، فقيل: هي أعجمية وعربت، وأصلها كهنام، فمنعها من الصرف للعلمية والعجمة. وقيل: بل هي عربية الأصل، والقائلون بذلك اختلفوا في نونها: هل هي زائدة أم أصلية؟ فالصحيح أنها زائدة ووزنها "فعنل" مشتقة من "ركية جهنام" أي: بعيدة القعر، وهي من الجهم وهو الكراهة، وقيل: بل نونها أصلية ووزنها فعلل كعدبس، قال: [ ص: 356 ] لأن "فعنلا" مفقود في كلامهم، وجعل "زونكا" فعللا أيضا، لأن الواو أصل في بنات الأربعة كورنتل، لكن الصحيح إثبات هذا البناء، وجاءت منه ألفاظ، قالوا: "ضغنط" من الضغاطة وهي الضخامة، و "سفنج" و "هجنف" للظليم، والزونك: القصير سمي بذلك لأنه ينزوك في مشيته أي: يتبختر، قال حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      902 - أجمعت أنك أنت ألأم من مشى     في فحش زانية وزوك غراب

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كله يدل على أن النون زائدة في "زونك" وعلى هذا فامتناعها للتأنيث والعلمية.

                                                                                                                                                                                                                                      "ولبئس المهاد" المخصوص بالذم محذوف، أي: ولبئس المهاد جهنم، وحسن حذفه هنا كون "المهاد" وقع فاصلة، وقد تقدم الكلام على "بئس" وخلاف الناس فيها. وحذف هذا المخصوص بذلك على أنه مبتدأ والجملة من نعم وبئس خبره، سواء تقدم أو تأخر; لأنا لو جعلناه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر، ثم حذفناه، كنا قد حذفنا الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، وأيضا فإنه يلزم من ذلك أن تكون الجملة مفلتة مما قبلها إذ ليس لها موضع من الإعراب، وليست معترضة ولا مفسرة ولا صلة ولا مستأنفة.

                                                                                                                                                                                                                                      والمهاد فيه قولان، أحدهما: أنه جمع "مهد" وهو ما يوطأ للنوم والثاني: أنه اسم مفرد، سمي به الفراش الموطأ للنوم، وهذا من باب التهكم والاستهزاء، أي: جعلت جهنم لهم بدل مهاد يفترشونه وهو كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 357 ]

                                                                                                                                                                                                                                      903 - وخيل قد دلفت لها بخيل     تحية بينهم ضرب وجيع

                                                                                                                                                                                                                                      أي: القائم لهم مقام التحية الضرب الوجيع.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية