الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (148) قوله تعالى: ولكل وجهة : جمهور القراء على تنوين "كل"، وتنوينه للعوض من المضاف إليه، والجار خبر مقدم، و "وجهة" مبتدأ مؤخر، واختلف في المضاف إليه "كل" المحذوف فقيل: تقديره: ولكل طائفة من أهل الأديان، وقيل: ولكل أهل موضع من المسلمين وجهته إلى جهة الكعبة يمينا وشمالا ووراء وقدام. وفي "وجهة" قولان، أحدهما - ويعزى للمبرد والفارسي والمازني في أحد قوليه -: أنها اسم المكان المتوجه إليه، وعلى هذا يكون إثبات الواو قياسا إذ هي غير مصدر. قال سيبويه "ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت: وعدة، ولو بنيت مصدرا لقلت: عدة، والثاني: أنها مصدر، ويعزى للمازني، وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذكر [ ص: 173 ] حذف الواو من المصادر: "وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة"، وعلى هذا يكون إثبات الواو شاذا منبهة على ذلك الأصل المتروك في عدة ونحوها، والظاهر أن الذي سوغ إثبات الواو وإن كانت مصدرا أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد; إذ الفعل المسموع من هذه المادة توجه واتجه، ومصدرهما التوجه والاتجاه، ولم يسمع في فعله: وجه يجه كوعد يعد، وكان الموجب لحذف الواو من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وهنا فلم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه فلذلك قلت: إن "وجهة" مصدر على حذف الزوائد لتوجه أو اتجه. وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "هو موليها" جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع لأنها صفة لوجهة، واختلف في "هو" على قولين، أحدهما: أنه يعود على لفظ "كل" لا على معناها ولذلك أفرد، والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره هو موليها وجهه أو نفسه، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر: "مولاها" على ما لم يسم فاعله كما سيأتي. والثاني: أنه يعود على الله تعالى أي: الله مولي القبلة إياه، أي ذلك الفريق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "موليها" على اسم فاعل، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه، وقرأ ابن عامر - ويعزى لابن عباس - مولاها على اسم المفعول، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل، والثاني هو الضمير المتصل به وهو "ها" العائد على الوجهة، وقيل: على التولية ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءة يتعين عود "هو" إلى الفريق، إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى، وقرأ [ ص: 174 ] بعضهم: "ولكل وجهة" "بالإضافة، ويعزى لابن عامر، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال أحدها: - وهو قول الطبري -: أنها خطأ وهذا ليس بشيء، إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل. والثاني - وهو قول الزمخشري وأبي البقاء: أن اللام زائدة في الأصل، قال الزمخشري: "المعنى وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام لا تقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه، لئلا يلزم أحد محذورين، وهما: إما لأنه يكون العامل قويا ضعيفا، وذلك أنه من حيث تعدى للضمير بنفسه يكون قويا ومن حيث تعدى للظاهر باللام يكون ضعيفا، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعديا لاثنين، ولذلك تأول النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      771 - هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب



                                                                                                                                                                                                                                      على أن الضمير في "يدرسه" للمصدر، أي: يدرس الدرس لا للقرآن، لأن الفعل قد تعدى إليه. وأما تمثيله بقوله: "لزيد ضربت" فليس نظير الآية [ ص: 175 ] لأنه لم يتعد في هذا المثال إلى ضميره، ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال، فتقدر عاملا في "لكل وجهة" يفسره "موليها" لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجرورا بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى، ولا يجوز جر المشتغل عنه بحرف، تقول: زيدا مررت به أي: لابست زيدا مررت به، ولا يجوز: لزيد مررت به، قال تعالى: "والظالمين أعد لهم" وقال:


                                                                                                                                                                                                                                      772 - أثعلبة الفوارس أم رياحا     عدلت بهم طهية والخشابا



                                                                                                                                                                                                                                      فأتى بالمشتغل عنه منصوبا، وأما تمثيله بقوله: لزيد أبوه ضاربه فتركيب غير عربي.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن "لكل وجهة" متعلق بقوله: "فاستبقوا الخيرات" أي:فاستبقوا الخيرات لكل وجهة، وإنما قدم على العامل للاهتمام به، كما يقدم المفعول، ذكره ابن عطية، ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن "ولكل وجهة" في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو "مول" وهو "ها"، وتكون عائدة على الطوائف، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولي الطوائف أصحاب القبلات، وزيدت اللام في المفعول لتقدمه ويكون العامل فرعا; لأن النحويين نصوا على أنه لا يجوز زيادة اللام للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط، و "مول" مما يتعدى لاثنين، فامتنع ذلك فيه. وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به عليه الشيخ من كون الفعل إذا تعدى للظاهر فلا يتعدى لضميره، [ ص: 176 ] وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل بـ "مول" ليس بضمير المفعول بل ضمير المصدر وهو التولية، ويكون المفعول الأول محذوفا، والتقدير: الله "مولي التولية كل وجهة أصحابها، فلما قدم المفعول على العامل قوي باللام لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فاستبقوا الخيرات" " الخيرات " منصوبة على إسقاط حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات ، كقول الراعي:


                                                                                                                                                                                                                                      773 - ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل     سواكم فإني مهتد غير مائل



                                                                                                                                                                                                                                      أي: إلى سواكم، وذلك لأن "استبق": إما بمعنى سبق المجرد أو بمعنى تسابق، لا جائز أن يكون بمعنى سبق لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات، فبقي أن يكون بمعنى تسابق ولا يتعدى بنفسه.

                                                                                                                                                                                                                                      والخيرات جمع: خيرة وفيهما احتمالان: أحدهما: أن تكون مخففة من "خيرة" بالتشديد بوزن فيعلة نحو: ميت في ميت. والثاني: أن تكون غير مخففة، بل تثبت على فعلة بوزن جفنة، يقال: رجل خير وامرأة خير، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسبق: الوصول إلى الشيء أولا، وأصله التقدم في السير، ثم تجوز به في كل تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أينما تكونوا" "أين" اسم شرط تجزم فعلين كإن و "ما" مزيدة عليها على سبيل الجواز، وهي ظرف مكان، وهي هنا في محل نصب خبر لكان، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ماله صدر الكلام، و "تكونوا" مجزوم بها على الشرط، وهو الناصب لها، و "يأت" جوابها، وتكون أيضا استفهاما فلا تعمل شيئا، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية