الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (198) قوله تعالى: أن تبتغوا : "أن" في محل نصب عند سيبويه والفراء، وجر عند شيخيهما والأخفش; لأنها على إضمار حرف الجر، أي: في أن، وهذا الجار متعلق: إما بجناح لما فيه من معنى الفعل وهو الميل والإثم، وما كان في معناهما، وإما بمحذوف، لأنه صفة لـ "جناح"، فيكون مرفوع المحل أي: جناح كائن في كذا. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه متعلق بـ "ليس"، واستضعفه، ولا ينبغي ذلك، بل يحكم بتخطئته البتة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من ربكم" يجوز أن يتعلق بتبتغوا، وأن يكون صفة لـ "فضلا"، فيكون منصوب المحل، متعلقا بمحذوف. و "من" في الوجهين لابتداء الغاية، لكن في الوجه الثاني تحتاج إلى حذف مضاف أي: فضلا كائنا من فضول ربكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فإذا أفضتم" العامل فيها جوابها وهو "فاذكروا" قال أبو البقاء. "ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها لأنه شرط". وقد منع الشيخ [ ص: 330 ] من ذلك بما معناه أن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر; لأن ذلك عرفات وهذا المشعر الحرام، وإذا اختلف المكان لزم منه اختلاف الزمان ضرورة، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند إنشاء الإفاضة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من عرفات" متعلق بـ "أفضتم" والإفاضة في الأصل: الصب، يقال: فاض الماء وأفضته، ثم يستعمل في الإحرام مجازا. والهمزة في "أفضتم" فيها وجهان، أحدهما: أنها للتعدية فيكون مفعوله محذوفا تقديره: أفضتم أنفسكم، وهذا مذهب الزجاج وتبعه الزمخشري، وقدره الزجاج فقال: "معناه: دفع بعضكم بعضا". والثاني: أن أفعل هنا بمعنى فعل المجرد فلا مفعول به. قال الشيخ: "لأنه لا يحفظ: أفضت زيدا بهذا المعنى الذي شرحناه، وكان قد شرحه بالانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل أفضتم: أفيضتم فأعل كنظائره، بأن نقلت حركة حرف العلة على الساكن قبله فتحرك حرف العلة في الأصل وانفتح ما قبله فقلب ألفا، وهو من ذوات الياء من الفيض كما ذكرت لك، ولا يكون من ذوات الواو من قولهم: فوضى الناس وهم أخلاط الناس بلا سائس.

                                                                                                                                                                                                                                      وعرفات اسم مكان مخصوص، وهل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان أحدهما: أنه مرتجل وإليه ذهب الزمخشري قال: "لأن العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف". والثاني: أنه مشتق، واختلف في اشتقاقه، فقيل: من المعرفة لأن إبراهيم عليه السلام لما عرفه جبريل هذه البقعة فقال: عرفت عرفت، أو لأنه عرفه بها هاجر وإسماعيل لما أخرجتهما [ ص: 331 ] سارة في غيبته فوجدهما بها، أو لأن آدم عرف بها حواء. وقيل: مشتقة من العرف وهو الرائحة الطيبة، وقيل: من العرف وهو الارتفاع ومنه عرف الديك، وعرفات جمع عرفة في الأصل ثم سمي به هذا الموضع، والمشهور أن عرفات وعرفة واحد. وقيل: عرفة اسم اليوم وعرفات اسم مكان، والتنوين في عرفات وبابه فيه ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه تنوين مقابلة، يعنون بذلك أن تنوين هذا الجمع مقابل لنون جمع الذكور، فتنوين مسلمات مقابل لنون مسلمين، ثم جعل كل تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهن جمع مذكر - كذلك طردا للباب. والثاني أنه تنوين صرف وهو ظاهر قول الزمخشري فإنه قال: "فإن قلت: فهلا منعت الصرف وفيها السببان: التعريف والتأنيث. قلت: لا يخلو التأنيث: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وإما بتاء مقدرة كما في "سعاد" فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها، لأن [هذه] التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا تقدر تاء التأنيث في بنت; لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها" فمنع الزمخشري أن يكون التأنيث سببا فيها فصار التنوين عنده للصرف. والثالث: أن جمع المؤنث إن كان له جمع مذكر كمسلمات ومسلمين فالتنوين للمقابلة وإلا فللصرف كعرفات.

                                                                                                                                                                                                                                      والمشهور - حال التسمية به - أن ينون وتعربه بالحركتين: الضمة والكسرة كما لو كان جمعا، وفيه لغة ثانية: وهو حذف التنوين تخفيفا [ ص: 332 ] وإعرابه بالكسرة نصبا. والثالثة: إعرابه غير منصرف بالفتحة جرا، وحكاها الكوفيون والأخفش، وأنشد قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      887 - تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي

                                                                                                                                                                                                                                      بالفتح.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "عند المشعر الحرام" فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق باذكروا. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل "اذكروا" أي: اذكروه كائنين عند المشعر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كما هداكم" فيه خمسة أقوال، أحدها: أن يكون في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف أي: ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، وهذا تقدير الزمخشري. والثاني: أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير المصدر المقدر، وهو مذهب سيبويه. والثالث: أن تكون للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجل هدايته إياكم، حكى سيبويه "كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه". وممن قال بكونها للعلية الأخفش وجماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ما" في "كما" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون مصدرية، فتكون مع ما بعدها في محل جر بالكاف، أي: كهدايته. والثاني: - وبه قال [ ص: 333 ] الزمخشري وابن عطية - أن تكون كافة للكاف عن العمل، فلا يكون للجملة التي بعدها محل من الإعراب، بل إن وقع بعدها اسم رفع على الابتداء كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      888 - وننصر مولانا ونعلم أنه     كما الناس مجروم عليه وجارم

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      889 - لعمرك إنني وأبا حميد     كما النشوان والرجل الحليم
                                                                                                                                                                                                                                      أريد هجاءه وأخاف ربي     وأعلم أنه عبد لئيم

                                                                                                                                                                                                                                      وقد منع صاحب "المستوفى" كون "ما" كافة للكاف، وهو محجوج بما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل "اذكروا" تقديره: مشبهين لكم حين هداكم. قال أبو البقاء: "ولا بد من حذف مضاف; لأن الجثة لا تشبه الحدث. والخامس: أن تكون الكاف بمعنى "على" كقوله: "ولتكبروا الله على ما هداكم".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وإن كنتم من قبله لمن الضالين": "إن" هذه هي المخففة من الثقيلة، واللام بعدها للفرق بينها وبين النافية، وجاز دخول "إن" على الفعل [ ص: 334 ] لأنه ناسخ. وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب "إن" أو لام أخرى غيرها، اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأي البصريين. وأما الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فالفراء يزعم أنها بمعنى "إن" النافية واللام بمعنى إلا أي: ما كنتم من قبله إلا من الضالين، ومذهب الكسائي التفصيل: بين أن تدخل على جملة فعلية فتكون "إن" بمعنى قد، واللام زائدة للتوكيد وبين أن تدخل على جملة اسمية فتكون كقول الفراء، وقد تقدم طرف من هذه الأقوال.

                                                                                                                                                                                                                                      و "من قبله" متعلق بمحذوف يدل عليه" لمن الضالين"، تقديره: كنتم من قبله ضالين لمن الضالين. ولا يتعلق بالضالين بعده، لأن ما بعد أل الموصولة لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي من يتوسع في الظرف، وقد تقدم تحقيقه. والهاء في "قبله" عائدة على "الهدى" المفهوم من قوله "كما هداكم".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية