الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (213) قوله تعالى: مبشرين ومنذرين : حالان من "النبيين". قيل: وهي حال مقارنة، لأن بعثهم كان وقت البشارة والنذارة. وفيه نظر، لأن البشارة والنذارة بعد البعث. والظاهر أنها حال مقدرة. وقد تقدم معنى البشارة والنذارة في قوله: "أأنذرتهم"" وبشر الذين آمنوا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "معهم" هذا الظرف فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بأنزل. وهذا لا بد فيه من تأويل، وذلك أنه يلزم من تعلقه بأنزل أن يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإنزال، وهم لا يوصفون بذلك لعدمه فيهم. وتأويله أن المراد بالإنزال الإرسال، لأنه مسبب عنه، كأنه قيل: وأرسل معهم الكتاب فتصح مشاركتهم له في الإنزال بهذا التأويل. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكتاب، وتكون حالا مقدرة أي: وأنزل مقدرا مصاحبته إياهم، وقدره أبو البقاء بقوله: "شاهدا لهم ومؤيدا"، وهذا تفسير معنى لا إعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      والألف واللام في "الكتاب" يجوز أن تكون للعهد بمعنى أنه كتاب [ ص: 375 ] معين كالتوراة مثلا، فإنها أنزلت على موسى وعلى النبيين بعده، بمعنى أنهم حكموا بها، واستداموا على ذلك، وأن تكون للجنس، أي: أنزل مع كل واحد منهم من هذا الجنس. وقيل: هو مفرد وضع موضع الجمع، أي: وأنزل معهم الكتب وهو ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة معطوفة على قوله: "فبعث" لا يقال: البشارة والنذارة ناشئة عن الإنزال فكيف قدما عليه؟ لأنا لا نسلم أنهما إنما يكونان بإنزال كتاب، بل قد يكونان بوحي من الله تعالى غير متلو ولا مكتوب. ولئن سلمنا ذلك، فإنما قدما لأنهما حالان من "النبيين" فالأولى اتصالهما بهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالحق" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من الكتاب أيضا عند من يجوز تعدد الحال وهو الصحيح. والثاني: أن يتعلق بنفس الكتاب لما فيه من معنى الفعل، إذ المراد به المكتوب. والثالث: أن يتعلق بأنزل، وهذا أولى لأن جعله حالا لا يستقيم إلا أن يكون حالا مؤكدة، إذ كتب الله تعالى لا تكون ملتبسة بالحق، والأصل فيها أن تكون منتقلة، ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل. ولأن الكتاب جار مجرى الجوامد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ليحكم" هذا الجار متعلق بقوله: "أنزل" واللام للعلة. وفي الفاعل المضمر في "ليحكم" ثلاثة أقوال، أحدها: وهو أظهرها، أنه يعود على الله تعالى لتقدمه في قوله: "فبعث الله" ولأن نسبة الحكم إليه حقيقة، ويؤيده قراءة الجحدري فيما نقله عنه مكي: "لنحكم" بنون العظمة، [ ص: 376 ] وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم. وقد ظن ابن عطية أن مكيا غلط في نقل هذه القراءة عنه وقال: "إن الناس رووا عن الجحدري: "ليحكم" على بناء الفعل للمفعول" ولا ينبغي أن يغلطه لاحتمال أن يكون عنه قراءتان. والثاني: أنه يعود على "الكتاب" أي: ليحكم الكتاب، ونسبة الحكم إليه مجاز كنسبة النطق إليه في قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق"، ونسبة القضاء إليه في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      921 - ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه المجاز أن الحكم فيه فنسب إليه. والثالث: أنه يعود على النبي، وهذا استضعفه الشيخ من حيث إفراد الضمير، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع ليطابق "النبيين". ثم قال: "وما قاله جائز على أن يعود الضمير على إفراد الجمع على معنى: ليحكم كل نبي بكتابه. و "بين" متعلق بـ "يحكم". والظرفية هنا مجاز. وكذلك "فيما اختلفوا" متعلق به أيضا. و "ما" موصولة، والمراد بها الدين، أي: ليحكم الله بين الناس في الدين، بعد أن كانوا متفقين عليه. ويضعف أن يراد بـ "ما" النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لغير العقلاء غالبا. و "فيه" متعلق بـ "اختلفوا"، والضمير عائد على "ما" الموصولة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما اختلف فيه" الضمير في "فيه" فيه أوجه، أظهرها: أنه عائد على "ما" الموصولة أيضا، وكذلك الضمير في "أوتوه". وقيل: يعودان على الكتاب، أي: وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوا الكتاب. وقيل: يعودان [ ص: 377 ] على النبي قاله الزجاج. أي: وما اختلف في النبي إلا الذين أوتوا علم نبوته. وقيل: يعود على عيسى للدلالة عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من بعد" فيه وجهان، أحدهما: وهو الصحيح، أن يتعلق بمحذوف تقديره: اختلفوا فيه من بعد. والثاني: أنه متعلق بـ "اختلف" الملفوظ به، قال أبو البقاء: ولا تمنع "إلا" من ذلك، كما تقول: "ما قام إلا زيد يوم الجمعة". وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاة فيه كلام كثير. وملخصه أن "إلا" لا يستثنى بها شيئان دون عطف أو بدلية، وذلك أن "إلا" معدية للفعل، ولذلك جاز تعلق ما بعدها بما قبلها، فهي كواو مع وهمزة التعدية، فكما أن واو "مع" وهمزة التعدية لا يعديان الفعل لأكثر من واحد، إلا مع العطف، أو البدلية كذلك "إلا". وهذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم خالف. فإن ورد من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يؤول. فمنه قوله: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي" ثم قال: "بالبينات"، فظاهر هذا أن "بالبينات" متعلق بأرسلنا، فقد استثني بـ "إلا" شيئان، أحدهما "رجالا" والآخر "بالبينات". وتأويله أن "بالبينات" متعلق بمحذوف لئلا يلزم منه ذلك المحذور. وقد منع أبو الحسن وأبو علي: "ما أخذ أحد إلا زيد درهما" و "ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا". واختلفا في تصحيحها فقال أبو الحسن: "طريق تصحيحها بأن تقدم المرفوع الذي بعد "إلا" عليها، فيقال: ما أخذ أحد زيد إلا درهما، فيكون "زيد" بدلا من "أحد" و "درهما" مستثنى مفرغ من ذلك المحذوف، تقديره: ما أخذ أحد زيد شيئا إلا درهما". وقال أبو علي: "طريق ذلك زيادة منصوب [ ص: 378 ] في اللفظ فيظهر ذلك المقدر المستثنى منه، فيقال: "ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما" فيكون المرفوع بدلا من المرفوع، والمنصوب بدلا من المنصوب وكذلك: ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا. وقال أبو بكر بن السراج: تقول: "أعطيت الناس درهما إلا عمرا" جائز. ولو قلت: "أعطيت الناس درهما إلا عمرا الدنانير" لم يجز، لأن الحرف لا يستثنى به إلا واحد. فإن قلت: "ما أعطيت الناس درهما إلا عمرا دانقا" على الاستثناء لم يجز، أو على البدل [جاز] فتبدل "عمرا" من الناس، و "دانقا" من "درهما". كأنك قلت: "ما أعطيت إلا عمرا دانقا" يعني أن الحصر واقع في المفعولين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض المحققين: "وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ضعيف، وذلك أن البدل في الاستثناء لا بد من مقارنته بـ "إلا"، فأشبه العطف، فكما أنه لا يقع بعد حرف العطف معطوفان لا يقع بعد "إلا" بدلان".

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا عرف هذا الأصل وما قال الناس فيه كان إعراب أبي البقاء في هذه الآية الكريمة من هذا الباب، وذلك أنه استثناء مفرغ، وقد وقع بعد "إلا" الفاعل وهو "الذين"، والجار والمجرور وهو "من بعد"، والمفعول من أجله وهو "بغيا" فيكون كل منهما محصورا. والمعنى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه إلا من بعد ما جاءتهم البينات إلا بغيا. وإذا كان التقدير كذلك فقد استثني بـ "إلا" شيئان دون الأول الذي هو فاعل من غير عطف ولا بدلية. وإنما استوفيت الكلام في هذه المسألة لكثرة دورها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بغيا" في نصبه وجهان، أظهرهما: أنه مفعول من أجله لاستكمال الشروط، وهو علة باعثة. والعامل فيه مضمر على ما اخترناه، [ ص: 379 ] وهو الذي تعلق به "فيه" و "اختلف" الملفوظ به عند من يرى أن "إلا" يستثنى بها شيئان. والثاني: أنه مصدر في محل حال أي: باغين، والعامل فيها ما تقدم. و "بينهم" متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ "بغيا". أي: بغيا كائنا بينهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لما اختلفوا فيه"" لما" متعلق بـ "هدى" وما موصولة، والضمير في "اختلفوا" عائد على "الذين أوتوه"، وفي "فيه" عائد على "ما" وهو متعلق بـ "اختلف".

                                                                                                                                                                                                                                      و "من الحق" متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال من "ما" في "لما". و "من" يجوز أن تكون للتبعيض وأن تكون للبيان عند من يرى ذلك تقديره: الذي هو الحق. وأجاز أبو البقاء أن يكون "من الحق" حالا من الضمير في "فيه" والعامل فيها "اختلفوا". وزعم الفراء أن في الكلام قلبا والأصل: "فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا" واختاره الطبري. وقال ابن عطية: "ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه أن يكون غير حق في نفسه" قال: "والقلب في كتاب الله دون ضرورة تدفع إليه عجز وسوء فهم" انتهى. قلت: وهذا الاحتمال الذي جعله ابن عطية حاملا للفراء على ادعاء القلب لا يتوهم أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بإذنه" فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمحذوف لأنه حال من "الذين آمنوا" أي: مأذونا لهم. والثاني: أن يكون متعلقا بـ هدى مفعولا به، أي: هداهم بأمره.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 380 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية